actors

Raymond Gebara

Actor and director

في افتتاح المهرجان الرابع للأفلام
وتكريم ريمون جبارة

أيها الأصدقاء
يمكنكم أن تكونوا معجبين بريمون جبارة أو رافضين له.
يمكنكم أن تحضروا مسرحياته، بشغف، أو أن تقلبوا شفاهكم، رفضاً واستنكاراً.
يمكنكم أن تستمعوا إليه يخاطب جدّته: ألو ستّي، فتبتسمون... أو تتوتّر أعصابكم.
يمكنكم أن تقرأوه في ملحق النهار، باهتمام، أو أن ترموا الجريدة جانباً.
يمكنكم الليلة، في هذه الجامعة، أن تقفوا إكراماً له، أو أن تتنكّروا لشكله ومرآه،
ولكن، لا أحد منكم يمكن أن يطرح السؤال: من هو ريمون جبارة؟ او أن يدّعي: انا لا أعرف ريمون جبارة.

كل منّا قادر أن يقول عن كبار كبار، في مجتمعنا: رجال سياسة، رجال دين، رجال اقتصاد... أنا لا اعرف هذا الاسم ولا هذا الشكل. ولكن ريمون جبارة، يبقى في كل حين، وعلى توتّره ووجعه، الرجل – الرجل الذي، أينما كان، في كل موقع وزمان، يبقى صاحب بصمة لا تمحى، وحضور لا يغيب.

صفّقوا معي تحيّة حبّ لهذا الرجل.

أيها الأصدقاء

خمسون سنة، وأنا ألاحق ريمون جبارة. لو كان صبية حلوة، لكان عليّ أن أعتاد، او أن أنسى، أو أن أُهمل... ولكن، لا، هذا الكبير لا يزال، في كل يوم، يولّد جديداً، ويبدع جميلاً، ويهزّ الضمير والبَدَن معاً.

مزعج هو أحياناً، موجع، وقح، حادّ؟ صحيح... ولكنّ، لأنّه هكذا هو مبدع. ما مشى في الصف يوماً، ولا تدجن في غابة الرعب والإرهاب، ولا رفع شعار: الايد لما فيك ليها، بوسا وادعي عليها بالكسر. لا، بل كان رجل التحدّي والتصدّي... وأكثر تحدياته هي لنفسه، ولبقايا هذا الجسد الملعون.
أجل، أيها الأصدقاء.

أنا من محبّي ريمون جبارة، ويوم دخل جامعتنا، منذ عشرين سنة، أستاذاً لمادّة المسرح، كنا كمن نقف، أمامه، مصلّين، كما في كنيسة.

يومها، زرداشت صار كلباً... ودمعت عيون كثيرة.

تُرى لا زال الانسان في وطني، يتحوّل من زرداشت إلى كلب؟ حرام، مؤسف، لا، يا ريمون... ولكن ريمون أُصيب بلوثة التمرّد، فحمل قلمه، وصوته، وعقله، وحركات وجهه وعينينه، وراح يضرب، يضرب، ولا يزال.

نعم، يا ريمون، نحن بحاجة إلى أكثر من الضرب على الأقفية، نحن لا نستحقّك، لا أنت ولا رفاقك... الله، كم هم كبار: لطيفة وأنطوان ملتقى، منير أبو دبس، يعقوب الشدراوي، روجيه عسّاف، رضا خوري، جلال خوري، نضال الأشقر، رضى كبريت، رفعت طربيه، أنطوان كرباج، رينيه الديك، شوقي متّى، برج فازليان، موريس وناجي معلوف، الياس الياس، جوليا قصّار، رلى حمادة... ولا تنسوا: جورج خبّاز... ذكّروني بعد، ولا ننسى مسرح الرحابنة، وشوشو ونبيه أبو الحسن.... كان الفنّ فنّاً... رزق الله على الفنّ....

ولكننا لا نزال... ومع هؤلاء الأصدقاء الفنّانين، ومع هؤلاء الطلاّب المبدعين، ومع ريمون جبارة صانع الأحلام، لا نزال نؤمن أنّ لبنان قادر على تجاوز الصعاب والأفخاخ والألغام المزروعة في أرضه. ولا نزال نؤمن أننا بالفن، بالحبّ، بالجمال، يحيا لبنان. نعم، يا معالي الوزير نرجوك أن تنقل إلى أهل الحكم والحكومة والسياسة، ونحن نحترم الجميع، ان لبنان، لا ينمو بالثرثرة والشتائم والمتاريس، بل، بالفن والثقافة والجمال. لهم لبنانهم، ولنا لبناننا، فشكراً لكم. عشــتم، عـــاش ريمون جبارة، عـــاش لبنـــان.

جامعة سيّدة اللويزة
7/11/2010
ســهيل مطــر

التكريم

بتاريخ 5/11/2010، أصدر رئيس جامعة سيّدة اللويزة الأب وليد موسى، القرار الآتي:
1- يُطلق على الكرسي التي يستند اليها ريمون جبارة، هذه الليلة، اسم كرسي ريمون جبارة. وهنيئاً لمن يجلس عليها.

2- ينال طليعة الطلاّب المتخرّجين من الجامعة، سنوياً، قسم الفنون السمعيّة – البصرية، جائزة ماديّة ومعنوية ثمينة تحمل اسم: جائزة ريمون جبارة.

3- ان الجامعة ستعمل، بالتعاون مع وزارة الثقافة، لإخراج وتقديم مسرحيّة جديدة لريمون جبارة سنة 2012.

4- باسمكم جميعاً، أقدّم هذه الميدالية، رمزاً لتقديرنا لهذا الرجل العظيم.

Passed Away in 2015

ريمون جبارة...زهرة الخريف بقلم الدكتور جورج شبلي

ما الذي كان يقع، لو ظلّت كفايات ريمون جبارة مستورة، ولم يظفر بلسان صِدق في الآخرين ؟
أجناس الكلام ثلاثة، اللغة والشكل والصّمت. وفي جميعها، كانت إحاطة ريمون جبارة في الطّبقة العالية جودةً في التعبير، ودقّةً في الرّصف، وبلاغةً في الإخراج. فاللغة معه، لم تكن مقصورةً على ملك دون سوقة، ولا على لسان دون لسان، فالوضوح فيها لا يعتريه ضعف ولا التواء، لذلك كانت أحسن موقعاً وأطيب مستمَعاً، لأنها كالعِقد المنظوم الذي جعل كلّ خرزة منه الى ما يليق بها. والشكل معه لا يحوطه لَبس، ومن الصّعب أن يدرك المتلقّي أنّ هناك شكلاً يتجاوز تذوّقُه إلفةَ شكل جبارة، بتلوّناته وإدهاشاته وإشاراته الدّالة على أكثر مُراده. أما الصمت فكان إبانةً عن حدود البلاغة ولم يكن همهمة أَعجام، وهذا إقرار بإعجاز جبارة في التأمّل، وفي استخراج نعوت الحياة من العُري.

لم يُبدِ ريمون جبارة "ذكر النّحل"، وجه المودّة حاجزاً دون شرّ الناس وسخطهم، فهو لم يزدهم كيلا ينقصوه، ولم يقصد رضاهم ليحذر كيدهم ويكون منه في مأمن. إنّ المنهج الغالب في نتاجاته هو المواجهة الكثيرة في القول اليسير، ولو قرّبته من يومه، فطول السلامة اعتدال، وهو ما له من عيشه إلاّ لذّة الحقيقة المتطرّفة، ولو ازدلفت به الى الموت. كان يعلم أنّ كلّ أكلة فيها غَصَص، فلم يتردّد في إزالة عن كلّ أمر غطاءه، ولا أمر عنده مختوم، ولا موقف لديه فاتر. لقد عوتب مراراً، واستمرّ في عصيانه فلم يقبّل تفّاح خدّ أحد، ولم يذب كَمداً لأنه وُجِّه الى الليونة المِدرار فلم يمتثل.
ريمون جبارة "صانع الأحلام"، جذّاب في الجمع بين القوّة والسهولة في صنائعه، بين التُّقى والفجور، بين ذوات الضَّبع وذوات الحَمَل، لذلك لم تكن أيّام القدرة عنده قصيرة. فالمَدار الذي أقحم نفسه فيه، مدار الإنسان، تغلب عليه الفطنة، وهي عسيرة شاقّة تنوء بها عزائم الآحاد، ما لم تستقلّ مسلك إجادة هذا العلم الكثير الأجزاء. وكان جبارة يعرف تماماً إلامَ يرمي، فجاءت فاتحة بحوثه تُعنى بتدوين أصول المسألة الإنسانية وبتحقيق فروعها، كما بتحديد الأهداف التي اصطلح مع نفسه على بلوغها.

وإن كانت المواضيع التي قاربها معلومةً بالطّبع ولم تضجره، غير أنه استقلّ فيها عن نظائره أيّما استقلال، لأنه عالجها وهو سكران طافح وبطباع مرحة، وأحياناً ببعض السذاجة المحبَّبة، فاتّهمه البعض بالبعد عن الإحتراف. أما سبب ذلك فمردّه الى أن جبارة لم يكن وافِداً حديثاً على الفنّ المسرحي، ولا على الكتابة، ولا على أرض الحياة، فقد كان من الأوائل الذين وطَّأوا الواقع في الكلمة وعلى الخشبة، من دون المرور بقواعد بيروقراطيّة الإبتكار الفنّي التي تؤطّر كيفيّات التعبير.
وقد يقع البيان بغير الفصحى، ومَن ذهب الى غير هذا المذهب، وقع في خطأ لو يعلمُ شنيع. فالعامية التي تجافاها الإستعمال في بعض الحقبات ليست أخسّ مراتب البيان، فمعاجمها مع جبارة إبانةٌ مخلصة لما كان يذهب اليه الناس في يومياتهم، ومن دون احتمال النّقيض. لقد نزل روح العاميّة الأمين على قلبه، وأين لغير العامية من السِّعة ما لها، فأَنطق لسان جبارة في مشاهد حفظت ما تفرَّق في أحشاء المجتمع من تثقيل عِبَر تُفرج وتُحرج. وبقليل تأمّل، نعرف أن هذه المشاهد ما هي سوى تسطير لما يقع للناس من المعقول، وأيضاً من غير ما يألفون.

الملاحة في كلام ريمون جبارة زوابع في ضحكة. فأسلوبه ظَروف يناصب الخصومة لعلم النّحو في اشتقاق العبوس المفرط ونَحت الحزم. وكأنّ عباراته وَقعُ المِضراب على الأوتار، يزدحم لها انشراح النفوس ولو اصطكّت لها بعض الرّكب. لقد عمد في "آلو ستّي"، وبلمحات عِجال، الى تبويب ما مرّ بخاطره من ألوان المناسبات التي قطّعت أوصال واقعنا الذّاهل عن الحق، فلم يعمد الى شكوى الزمان بل قارب الوقائع جرياً على أسلوب الذكاء الإجتماعي، فبدا أنه يكتب لنفسه قبل كل شيء ليرضى، وليرضي بالتالي أنفس الآخرين.

إنّ عقيدة المَسرحة الحرّة هي الوضع الذي أراد جبارة باختياره أن يضع الممثّل والمُشاهد معاً، في حال مستقيمة من الوجهة الواقعية. وإذا قلّ أنصار هذه العقيدة، بين المخرجين البراغماتيين الذين رأوا فيها إلحاداً في أصول الإخراج، إلاّ أنها لم تكن مَصدودة عمَّن يناصرها. فجبارة لا يطبّق نظريّات إخراجية لا تنتسب الى منهج الطّبعية، لأنه لا يعتبر المسرح مجرّد محاكاة باردة للحياة، بل هو أعظم بكثير حتى من الحياة نفسها. لكنّ التفلّت من القواعد يجري معه على قاعدة، وهي الإلتزام بسحر المسرح الحرّ المبدع على غير إسفاف وزَيغ. وهكذا تأهّب لمقابلة المرتابين في قيمة مذهبه.
ريمون جبارة مؤدلج وطنياً، فولاؤه للمسرح كان انعاساً بديهياً لولائه لوطنه، هذا الذي لما تزل "المؤامرة مستمرّة" في نهشه.

ولبنان لم يكن مع جبارة غير حالة يقينية، وخلاصة أساطير الأوّلين، لا يذكره إلاّ بحماسة، ولا يعتزّ إلاّ بالانتساب إليه. ومع غياب ريمون جبارة في خضمّ الربيع، نسمع الوطن يسأل بعَتَب: " مَن قطف زهرة الخريف ؟ ".