actors

Jalal Khoury

Director

Passed away December 2017

جــــلال خــــوري

السيرة الذاتية

مؤلف ومخرج مسرحي - كاتب وناقد فني - كاتب سيناريو - مُمثل - اشتغل باللغتين العربية والفرنسية - أستاذ في معهد الدراسات المسرحية، السمعية المرئية والسينمائية (Iesav) في جامعة القديس يوسف - رَئيسَ اللجنة الدائمة للعالم الثالث في مؤسسة المسرح التابعة لليونسكو (I.T.I.) من سنة 1973 إلى سنة 1977 - أول مسرحي لبناني ترجم وعُرض له في الخارج - رَوّج المسرح السياسي

أهم كتاباته المسرحية :

ويزمانو، بن غوري وشركاه... (1968)
جحا في القرى الأمامية (1971)
الرفيق سجعان (1974)
كذاب... أو محاورات شاهين وطنسا (1982)
فخامة الرئيس (1988)
يا ظريف أنا كيف (1992)
رزق الله يا بيروت... (1994)
هنديّة ، راهبة العشق (1999)
الطريق إلى قــانــا (2006)
رحلة مُحتار إلى شرْي نَغار (2010)

اقتباس :

قبضاي (1972) عن "Play boy of the Western World" لجون ميلينغتن سينج
نهوند بند وبند (1993) عن " La puce à l’oreille" لجورج فيدو
بدايات في الإخراج :
رؤى سيمون ماشار (1964) بالفرنسيّة
صعود أرتورو أوي (1966) بالعربيّة
بديات في التمثيل :
بالفرنسيّة سنة 1962 في المركذ الجامعي للدراسات المسرحيّة (C.U.E.D.) في مسرحية
"بانتظار غودو" لسموئيل بيكت
حائز من الحكومة الفرنسية على وسام Chevalier des Arts et des Lettres برتبة فارس (2005)

العصر الذهبي لمسرح الستينيّات اللبناني: أسطورة أم حقيقة؟ لجلال خوري

شهد المسرح اللبناني في الستينيات ومطلع السبعينيّات فورة كبيرة مما دفع البعض للتكلم عن عصر ذهبي تميّز في عطائه عن كل ما شهده العالم العربي طوال القرن الماضي وفاق كل ما سبقه وجاء بعده في لبنان. ولكن ما هي حقيقة الأمر، وما خاصة وقيمة الأعمال التي شَغِف بها الجمهور البيروتي آنذاك ؟

عام ١٩٤۸، مع قيام دولة إسرائيل، تكبّدت الدول المحيطة بفلسطين الأضرار الناجمة عن هذا الزرع القسري لجسم غريب، فانعكس ذلك ارتدادات على حياة بلدان المنطقة، أدّت مع الوقت، الى تابعات دراماتيكيّة لم تكن الانقلابات العسكريّة والتقلبات السياسيّة أقلها.

في لبنان، على عكس ما جرى في دول المنطقة، وبالتزامن مع تحوّل الوساطة التجاريّة بين الغرب والمشرق من فلسطين ألى بيروت، وطفرة النفط في الامارات الخليجية، ساهمت الأحداث في نموّ اقتصادي مفاجئ وجارف، حمل في طيّاته، باعتقادنا، بزور الأزمة التي اندلعت عام ١٩۷٥. في الداخل، سبّبت هذه العوامل، الخارجة عن الحسبان والسيطرة، موجة نزوح كثيف من الريف إلى المدينة، فسرعان ما رزحت العاصمة تحت وطأة الوافدين الجدد الذين أحدثوا تغييرات اجتماعية بالغة الأهميّة عندما هاجروا نشاطاتهم التقليديّة في الريف للانخراط في الاقتصاد الخدماتي الناشئ الذي طغى على كل ما تبقى من قطاعات انتاجيّة (25 % سنة 1947 – 74 % سنة 1964 حسب احصاءات وزارة الاقتصاد).

في هذا السياق، مهّد كلّ من المزيج السكاني حول العاصمة التي تضخمت فجأة، والانفتاح الغير مسبوق على العالم الطريق أمام تشكيل واقع جديد على أكثر من صعيد. على خلفيّة ازدهار اقتصادي وتحولات اجتماعيّة كبيرة، نشأت مؤسسات ثقافية حديثة (الجامعة اللبنانية، مهرجان بعلبك، مسرح كازينو لبنان، معرض الربيع، الندوة اللبنانية، أكاديمية الفنون...) فتكاثر حركة البضائع نتيجة نموّ قطاع الخدمات (العمليات ثلاثيّة الأطراف) أدى إلى تكاثف في تناقل الأفكار والمعرفة.

وبفضل التعددية الثقافية والمجتمعية، وحرية التعبير التان ميّزتا لبنان عن باقي البلدان المجاورة القابعة تحت أنظمة ديكتاتورية متشدّدة تحكم عبر الأجهزة وتفرض رقابة صارمة على كل ما له علاقة بالإبداع، عرفت الصحافة المحلية ازدهاراً غير مسبق في المجتمعات المجاورة، سرعان ما تخطت هذه الصحافة الحدود وتوسّعت نحو عواصم الشرق الأوسط فأصبحت بذلك المصدر الرئيسي للمعلومات في جميع أنحاء المنطقة.

ومن المفارقة أن مجتمع نخبوي، ليبرالي (وفوضويّ الى حدّ ما)، منفتح اقتصادياً ومنعزل سياسياً في آن، أفرز نقيضه المتمثّل بحركات مطلبيه وأخرى قومية (العروبة، القومية السورية ...) مرتبطة تيارات غالباً ما تعود الى أيديولوجية أممية بالمعنى الماركسي للكلمة. في هذا المخاض، كلّ الشروط كانت مستوفية من أجل ازدهار الفنون عامّة والمسرح بصورة خاصّة.

على صعيد المسرح، موضوعنا الآن، تكونت، في بداية العقد السادس من القرن الماضي، وبشكل شبه عفوي، ثلاث تيارات مختلفة اولها مسرح بالعربية أعتمد بداية الكلاسيكيّة في النصوص واللغة، وكان محركاه أنطوان ملتقى ومنير أبو دبس، وثانيها باللغة الفرنسيّة، في إطار جامعيّ، اختبر كل ما كان ظاهراّ على مستوى الحداثة العالميّة. من عناصره البارزين : شريف خازندار وميشال غريّب وروحيه عساف وجلال خوري و ألان بليسون وجوزيف طرّاب وآخرين... التيار الثالث جمع نجوم الكوميديا الشعبيّة الذين كرّستهم الشاشة الصغيرة وعلى رأسهم بكلّ امتياز، حسن علاء الدين (شوشو) الذي افتتح في ١١ تشرين الثاني ١٩٦٥، أول مسرح يومي دائم (والوحيد) في لبنان.

بعثت هزيمة الجيوش العربيّة أمام إسرائيل خلال حرب حزيران ١٩٦۷ حياة جديدة للمسرح اللبناني، وأعطته مبرر وجود، شخصيّة مميزة. في الواقع، كان لهذه الهزيمة وقع مأساوي كبير على وعي الانسان العربي مما دفعه إلى طرح على نفسه العديد من التساؤلات، والشك في العديد من الثوابت، والى اعادة النظر بأمور عدّة. المسرح الذي كان قائماً في بيروت، على الرغم من وضعه الحرفي، أصبح من أكثر وسائل التعبير فاعليّة مقياساً للمناخ المضطرب الذي كان سائداً في هذه الحقبة.

لقد سعى فنانون الخشبة، وانطلاقاً من الخبرة العملية والشكلية المكتسبة خلال السنوات المنصرمة، الى ترسيخ مكانة فنهم وسط واقع متقلّب. فكانوا بطريقة أو بأخرى شركاء في حراك فكري وفنّي وشعبي ومطلبي واسع في زمن ازدهار مادي وقح. غصّت دور المسارح بجمهور جديد، أبدى اهتماماً أكبر بمضمون العروض منه بالشكل الفني. حملت التجارب الأولى سمة هذه الحماسة الكبيرة والشغف المشتعل، وبعد تجارب مرتبكة دخل عليها بعض الرتابة، ظهرت أعمال أكثر تماسكا خلقت جواً من التفاعل مع الجمهور الواسع. هكذا نالت مسرحيّة "جحا في القرى الأماميّة" الكوميديّة الشعبيّة التي عرضت عام ١٩۷١ نجاحاَ منقطع النظير فتخطى، وللمرة الأولى، عتبات المئة عرض. تبعها في الإقبال أعمال أخرى كـ"المهرّج" للشاعر السوري محمد الماغوط، بإخراج يعقوب شدراوي، وفي النبرة النازعة "وسيط كلب" التى قدمها أنطوان ملتقى لفترة وجيزة قبل أن تمنعها السلطات كما منعت قبلها "مجدلون" للثنائي نضال أشقر وروجيه عساف. منذ ذلك الحين، توسّع جمهور المسرح خارج دائرة صغيرة من المطلعين واستحقّ أن يكون بجدارة وسيلة تعبير متجذرة في المجتمع. من هنا، هل يسعنا أن نصف هذه الحقبة بالعصر الذهبي؟

بغض النظر عن نوعية والقيمة الجوهرية للأعمال، تكمن أهميّة مسرح الستينيات أنه كان شريك في حراك شعبي كبير جاء نتيجة سعي ومعانات جمهور واسع عاش حقبة درامية مثيرة، عُبر عنها في أكثر من وسيلة (الشعر والصحافة والندوات والفنون الجميلة والموسيقى والنشر ...) وفي أكثر من حراك وطني واجتماعي (في السياسة والمطالب النقابيّة، والتضامن مع كل قضية الحق في العالم من المقاومة الفلسطينية إلى حرب فيتنام مروراً بثورة الجزائر...) فارتبطت أهميّة هذا الفن، قبل كل شيء، بلحظة بارزة مفصليّة من تاريخنا. لقد حمل المسرح اللبناني في مضمونه، ماهيّة ذلك العصر وحدّته ووصمته، وقد أعطاه هذا العصر بدوره قيمته ودلالته.

مع هيمنة السمعيّ المرئيّ على وسائل التعبير - هل أصبح المسرح العالميّ في حالة انحدار؟ هل الحضارة التي ولّدته تنّدثر ؟بقلم جلال خوري

من البديهيّ القول إنّ حالة من التردّي تشوب المسرح، أو أنّه أصبح فنًّا ثانويًّا، لدرجة أنّ بعض الباحثين يستعدّون للإعلان عن إنحلاله كوسيلة تعبير مميّزة عُنيت بالتساؤلات الوجوديّة الكبرى، أو كما كان الحال في العصور الشاهقة، مساحة رحبة تجلّت فيها حريّة الإنسان. علمًا أنّه، في أكثر من عاصمة، لا تنفكّ الصالات تستقطب جمهورًا واسعًا حيث تقاليد المسرح لا زالت متأصّلة. مع ذلك، يبقى اليقين راسخًا عند أولئك المقتنعين بانحدار هذا الشكل العريق الذي وُلد من رحم الحضارة الإغريقيّة، حتّى بات من أعظم عطاءات الفكر الغربيّ من سوفوكليس إلى بريشت مرورًا بشكسبير وموليير وغوته، وآخرين...

إذاً، يبدو جليًّا، لكثير من المحلّلين، أنّ المسرح لم يَعدْ هذا الفنّ الشامل، الجامع لأكثر من وسيلة تعبير، باستثناء الأوبرا، أو بالأصحّ، الأعمال المشهديّة الموسيقيّة الضخمة التي تقوم على تأثيرات صوتيّة صاخبة، إلى جانب مجموعة من الوسائل الآليّة، والبصريّة، والضوئيّة، وذلك نظرًا للطابع الصناعيّ لهذه الأعمال، ولحشد الإمكانيّات لها...

التفسيرات جاهزة، تتوزّع في اتجاهين : إنّ اضمحلال المسرح يعود إمّا إلى بروز وسائل تعبير حديثة، بخاصّة السينما والتلفزيون واللّتين لا بدّ من أن يضاف إليهما ثنائيّ العصر الذي ولد مؤخّرًا من التزاوج بين الإنترنت والشاشة الصغيرة؛ وإمّا إلى تلاشي الحياة الاجتماعيّة والأسريّة الناجم عن انزواء الأفراد في المدن، والذي تفاقم بشكل مرضي بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ الجديدة.

أما نحن، فنعتقد ببساطة أنّ تناثر هذا الشكل الفنّي الفريد سببه، من جهة، غياب مقاربة متقدّمة للواقع تمهّد لإنتاج صور نابضة تعكس العلاقات الاجتماعيّة المعقّدة لعالم أصبحت مفرداته التكوينيّة مطموسة، ومن جهة أخرى، لعدم تبلور نظرة مبتكرة تجمع بين العلم ورؤية شموليّة سديدة للكون، وتستجيب للهواجس الوجوديّة للإنسان المعاصر.
بغية معالجة هذه المسألة من جذورها، لا بدّ من الوقوف أوّلًا عند العوامل التي أدّت إلى نشوء المسرح في أثينا، في القرن الخامس قبل الميلاد، على أثر تحوّلات اجتماعيّة، وسياسيّة، وثقافيّة جذريّة، فبلورت القاعدتين الأساسيّتين اللتين ارتكزت عليهما الحضارة الغربيّة، ألا وهما قيام الديمقراطية نتيجة إصلاحات الحاكم الأثينيّ كليستين (506 ق.م)، والكفّ عن الاحتكام إلى الماورئيّات، أقلّه في الأمور التي تحدّد علاقة البشر فيما بينهم. لقد تجلّى هذا التحوّل في ثلاثيّة اسخيلوس المعروفة بالـ "أوريستيا" (ثلاثيّة اسخيليوس المكوّنة من «أگاممنون»، و«حاملات الشراب» (458 ق.م.) و«ربات الغضب» (458 ق.م.) نسبةً إلى أوريست، ابن أكاممنون، قائد الحملة الإغريقيّة على مدينة طرواضة، الذي قتلته زوجته كليتمنسترا، فانتقم له ابنه بالقضاء على والدته، ما دفع كارل ماركس إلى القول عن هذه الثلاثيّة : "...عندما ترك الآلهة للبشر مهمة تقرير مصير البشر، مُني هؤلاء بأوّل هزيمة تاريخيّة كبرى (ماركس-أنجلز: الايديولوجية الألمانية- L’Idéologie allemande )".

كان، لكلّ من الديمقراطيّة والدنيويّة السياسيّة إذا صحّ التعبير، دور حاسم بإبراز تميّز الحضارة الإغريقيّة التي ينعتها البعض بالماديّة، إذ اختصرت بمقاربتها الواقع، فقط على ما هو ظاهر، وملموس، وحسّيّ، وقابل للقياس، والكيل، ولإعادة الإنتاج ... مدرجةً ما يخرج عن نطاق إدراكها في خانة القدريّة (Fatum).

من البديهيّ القول إنّ التراجيدية جسّدت بامتياز جوهر المغامرة الأثينيّة بفعل طبيعتها الصداميّة، إذا صحّ التعبير. ألم تكن التراجيدية هذه، في بداياتها، متمحورة بين مرافعة ومرافعة مضادّة ؟ (مثال على ذلك، لألكترا، ابنة أكاممنون، تفجّر غضبها بوجه والدتها كليتمنسترا لأنّها قتلت والدها، فتجيب الأم أنّها أقدمت على ذلك لأنّ هذا الأخير ضحّى بابنتها إفيجينيا للآلهة ليسهّلوا للإغريق عبور بحر إيجي).

إنّ المسرح بصر النور حين تفلّتت الطقوس من العبادات، فتحوّلت الأناشيد التي كانت تتغنّي بسِيَر الآلهة إلى عروض دنياويّة جدليّة هاجسها قدر الإنسان. حصل ذلك بالتزامن مع خروج الفرد من قبضة الأسرة القائمة على القرابة الدمويّة، أيّ عندما قام هذا الفرد بقطع الحبل السريّ الذي كان يربطه بالجماعة. ووُلدت المدينة، في المعنى السياسيّ-المجتمعيّ للمصطلح، بتجاوز نظام قبليّ تحكمه تقاليد فرضها التضامن الأسري، ومعتقدات خرافيّة كانت تشكّل القاعدة الأخلاقيّة والسلوكيّة الأساسيّة، مما عزّز نشوء نظام أهلي تخطّى البوتقات العشائريّة القائمة ليرتكز على معايير شموليّة عامة. لقد مهّد هذا التحوّل الطريق إلى الانتقال من الماورائيّات إلى السياسة والفلسفة، من النظام السلطويّ الأرستقراطيّ إلى الديمقراطيّة، من شريعة العين بالعين إلى العدالة المدَنيّة، ومن المقاربة الغيبيّة للكون إلى التفكير المنطقيّ، ما دفع المدينة-الدولة إلى الدخول بمغامرات سياسيّة كبيرة بهدف إقرار خياراتها المصيريّة.
على أثر خروج المواطن من النظم المرتبطة بالجماعة، وفي ميل ملحوظ لإثبات فرديّته، بات واضحًا أنّ مصيره أصبح بين يديه، أقلّه فيما يتعلّق بالخيارات الوجوديّة. ولا شكّ في أنّ أوديبوس الملك خير مثال على ذلك، هو الذي أمسى النموذج (والضحيّة) المثلى الناجمة عن هذا التحوّل الحضاريّ الجذريّ. (قد يسهل علينا فهم هذا الأمر إذا قارنّا تصرّف أوديبوس الذي تمرّد على أملاءات القدر، أي قتل والده والتزوّج من أمه، وحاول الهروب منه، انطلاقّا من خيار حرّ، ناجم عن دوافع ذاتيّة، لا سابق مراجع مقدّسة أو أخلاقيّة لها، بموقف إبراهيم الخليل الذي استسلم راضيًا للمشيئة الإلهيّة).

لن يستعيد المسرح زخمه ومبرّر وجوده إلاّ في أعقاب القرون الوسطى، مع فجر النهضة، وظهور رؤية مغايرة للكون خير من عبّر عنها مسرحيّو العصر الإليزابيثي. ساعد على ذلك الحريّة العقائديّة-الدينيّة العابرة نتيجة انفصال إنجلترا عن الكاثوليكيّة (1534)، أثناء حكم الملك هانري الثامن. لقد تميّزت أعمال مسرحيو الحقبة الإليزابيثية باستعارات دراميّة أطلق فيها المرء العنان لمشاعره، وانغمس في غرائزه من غير رادع، ليظهروا في خلفيّة المشهد إنهيار الطبقة المسيطرة منذ قرون. هذا ما أشار إليه برتولد بريشت، الكاتب الألماني الحذق، عندما قال "... أ من مشهد أكثر إثارة من سقوط الفئات الحاكمة ؟ "( برتولت بريشت: - شراء النحاس Der Messingkauf).

منذ ذلك الحين، تميّزت فترة ما بعد العصر الإليزابيثيّ، بأعمال ونظرياّت ديدرو، وليسينغ، وهوغو، وأنتج المسرح الأوروبيّ، بالتزامن مع تضافر أعمال سطحيّة كالميلودراما والفودفيل، عددًا من المؤلفات التي تمحورت حول ما يمكن تسميته بالواقعيّة الاجتماعيّة، تعود بمعظمها لأنريك إبسن، أوغوست ستريندبرغ، غيرهارت هاوبتمان، وأنطون تشيخوف ومكسيم غوركي... ولكن بقيت هذه النزعة التي ولدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع بدايات الحضارة الصناعيّة، بعيدةً عن صخب وملحميّة التراجيديّة الاغريقيّة أو الدراما الإليزابيثيّة، ذلك لأنها أفسِدت بمكان ما بفعل ظهور منهج معاصر لها، ألا وهو المذهب الطبيعيّ، وفق ما نظّر له إميل زولا.

لم يتجدد المسرح الأوروبي بشكل ملحوظ، ويبلور منظور مبتكر للواقع إلا بعد أن هزّت الفظائع التي ارتُكِبت في الحرب العالميّة الأولى نفوس البشر، بخاصّة الشباب، وأدّت إلى رفض، من قبل بعض هؤلاء، ليس لحكم الطبقة البرجوازيّة أو التركيبة السياسيّة فحسب، بل أيضًا إلى النتاج الثقافيّ والفنيّ السائد، والذي اعتبره الرافضون من إفراز إيديولوجيّة الفئات المسيطرة التي باتت إخفاقاتها الأخلاقيّة معلنة على الملأ، إذ، كما يقول ماركس، "أغرقت كلّ القيم في صقيع مستنقع الحسابات الأنانيّة (بيان الحزب الشيوعي سنة 1848)".

في برلين، انكب مسرحيون عايشوا هول أوّل مجزرة كبرى في العصر الحديث، على التفكير في العبثيّة التي تحيط بممارساتهم وسط عالم صنّع العنف والاستغلال. وبريادة المخرج أروين بيسكاتور، وبدعم من حركة نقابيّة عمّاليّة ضخمة، اجـتمع ممثّلون، وكتّاب، ومخرجون، ومصمّمو ديكور، علاوة على آخرين، وعملوا على تأسيس المسرح الأسطوريّ المعروف بالـVolksbühne. في هذا الإطار، ومنطلقين من مفاهيم سياسيّة ثوريّة، أو أقلّه رفضيّة، عمدوا في مشهديّات أصبحت شهادات تاريخيّة، ليس إلى نبذ الموروث الفنيّ السائد فحسب، بل إلى إلغاء البنية المعهودة للدراما الغربيّة ومبادئها. على غرار ما قام به، ولو من منظور مختلف، شعراء وفنانون أوربيون اعترضوا على المفاهيم الجماليّة المنتشرة وتنكّروا للشكل القائم في اعتناقهم مذاهب الدادية (Dadaisme) والسرّياليّة وغيرهما من المدارس الشكليّة التي برزت بعد الحرب العالميّة الأولى... عني هؤلاء بمجملهم بإعادة النظر لبل بتخليع الشكل ومنطق التعبير متّكلين على حاسّة ذاتيّة (الرسام الاسباني سلفادور دالي خير مثال على ذلك )، فيما جعل مطلقو المسرح السياسيّ من الساحة الفنيّة مهداً لحراك مطلبيّ ثوري معتمدين من جهتهم على الحاسّة السادسة الخاصة بهم، ألا وهي حاسة التاريخ.

بعد مرحلة أولى طغى عليها التهكّم، أعادت مجموعة الـVolksbühne ترتيب صفوفها، وأنشأت منهجيّة خاصّة بها، وعملت على تطوير جماليّة مبتكرة، منطلقةً من اختبارات ونقاشات، غالبًا ما كان الجمهور طرفًا فيها. في هذا الاطار، قام جدل ملفت بين طرفين بارزين لهذا التيار، متمثلين ببرتولت بريشت، وبالفيلسوف المجري الماركسي جورج لوكاش، تمحور حول المسألة التالية : هل ينبغي، كما يرى الفيلسوف، أن تتملّك البروليتاريا أشكال الفنّ ألبرجوازي وتشحنه بأبعاد خاصّة بهواجس الطبقة الكادحة، أم أنّه لا بدّ من إعادة النظر في العمليّة برمّتها، أيّ أن يتمخّض مضمون جديد عن شكل جديد، كما يصرّ الكاتب المسرحيّ ؟ وسيبقى الجدل حادًا حتّى رحيل بريشت عام 1956.

عند إنتهاء الحرب العالمية الثانية، ألقى المسرح السياسيّ بظلاله على العديد من الأعمال الطليعيّة، خاصّة في بلدان العالم الثالث الخارجة للتو من نير الاستعمار، بعد أنّ اسّس بريشت في برلين الشرقية، بدعم منقطع النظير من السلطة، فرقة الـBerliner Ensemble، أكثر مجموعة مسرحيّة تألقًا في تاريخ أوروبا والتي أصبحت المنارة والمرجع للمسرحيين التقدميين في العالم.

بعد بريشت، إذا استثنينا بعض الأعمال الأنجلو أمريكيّة، وكذلك في أنحاء العالم، حيث تلقى عدد وجيز من الأعمال نجاحًا هنا، ويحظى بعض الآخر بترحيبٍ عابرٍ هناك، يبدو المسرح الغربيّ باهتًا، بمعنى أنّه لم يتمكّن من تجسيد أيّ رؤية قيّمة، أو أصيلة عن الواقع، باستثناء المسرح العبثي الفرنسي (يونيسكو وبيكت) الذي شكّل محطةً مميزةً، ولو هامشيّة، إذا وضعناها في المسار التاريخي العام للمسرح في أوروبّا.

في النصف الثاني من القرن، صبّ العاملون في هذا الحقل، وبالأخصّ المخرجون، تركيزهم على صياغة العرض، أيّ في معظم الأحيان، على إعادة قراءة شكليّة آنية لأعمال قديمة، أو آتية من بلاد أخرى، ذلك لعدم قدرتهم على صنع صور درماتورجيّة حديثة تحمل بصمة عصرها، أو تعكس حيويّته.

وإذا عدنا إلى المحطّات التاريخيّة المحوريّة التي ذكرناها، يبدو جلياً أنّ المسرح الغربيّ كان نابضًا، وغنيًا بالمدلولات، كلّما كان دور المعتقدات أو ألماورائيات هامشيًا، أيّ في لحظات كان الإنسان يسعى إلى التماس إجابات لأسئلة مرتبطة بالوجود، بعيدًا عن أيّ روحانيّات، أو مسلّمات ذات مرتكزات غيبيّة. أمّا الآن، فمن الواضح، أنّنا أمام تساؤلات أخرى، مختلفة عن حقبة كانت فيها شخصيّات أسخيليوس تتصرّف بناءً على تحفيز الآلهة، أو حين كان أبطال شكسبير يحملون في كيانهم "نجم قدرهم"، أو حين حُكِم على نماذج بريشت بالتغيير، لأنّ العالم قد تغيّر.
بعد أن بسطت ثقافة عالمنا الأحاديّ القطب نماذجها على المعمورة بفعل سلطانها الاستعماري، دخلت مجمل قيمها وتعابيرها الفنيّة بحالة عقم مشهود. هذا ما أدركه بالحدس العدد من المبدعين، فأخذوا يتحسّسون، غالبًا على غير هدى، عن مصادر لإلهامهم خارج دائرة النماذج الغربيّة، فتوجّه بعض منهم إلى حضارات أخرى، إلى ينابيع المعرفة في بلدان آسيا العريقة كالهند والصين واليابان، فيما عمِل آخرون على محاولة إحياء إرثهم الثقافيّ المحلّيّ، أو ما تبقّى منه، لنسخ أنماط من ماضيٍ ولّى، ولو تبيّن، في معظم الحالات، أنّ تلك الأنماط أصبحت غير قابلة للتداول. النتائج حتّى الآن لا تبدو صائبة...

إلاّ أنّ العلم الغربيّ المعاصر، بفضل أكثر إكتشافاته تقدّمًا، وبالأخصّ الفيزياء الكميّةQuantum Mechanics، ومن دون أن يتخلّى عن النهج الذي سلكه عبر العصور وتميّز به، والمتمثّل بمقاربة الواقع حصريًا من خلال المحسوس، والملموس، والمختبر، والمنطقيّ، كما سبق وأشرنا، طوّر فرضيّات تحاكي، يا للمفارقة، حَدْس حكماء الشرق الأقصى واستبصاراتهم : إنّ الكون واحد، من المجّرة إلى الذرّة، من الخالق إلى الخليقة؛ وإنّ المعرفة مجسّمة في الوعي، لا تنتظر سوى الكشف والتعبير عنها... هل يمكن للمسرح أن يشكّل، يومًا ما، طرفًا أو شريكًا في هذا الحراك الفكريّ ؟

كان الكاتب الفرنسيّ أندريه مالرو، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، يتكلّم عن : "...هذا القرن الحادي والعشرون الذي يقع على عاتقه مهمّة إعادة إدخال الآلهة"( جملة نسبت للكاتب في «Amitiés Internationales André Malraux »)... إعادة إدخال الآلهة، أو ربّما تبصّر مبتكر للكون، ناجم عن تناغم بين ما هو اختباريّ وما هو أزليّ، ما هو إدراك حسّيّ وما هو دهريّ، أي إلى رؤية شموليّة لا ينقضها أيّ فكر علميّ، وتفتح الأفق أمام رجاء جديد.