زين شعيب
كثيراً ما يتمّ التلاقح بين اللغة الفصحى والأخرى المحكيّة في تدافع مسيرة الثقافات، عن طريق جاليات الزّجل. فأركانها لم يشكّلوا عالَماً مغلقاً غامضاً، بل حيثية ينبغي اعتبارها الحلقة الأساسية الأولى في تلك السلسلة التي تتألّف منها الحضارات المتتابعة. وعلى ضوء الزجل، وهو النواة الأولى التي يدين لها قيام المدنيّات، يمكن التعرّف على مقاطع الحياة منذ ولادتها وحتى الساعة.
زين شعيب وجه مشعّ ولاعب أساسي في معارك القول، لم يكن زجّالاً بقدر ما كان قائداً في الشعر مظفّراً، ومن الصعب منازعة نفوذه. ولم يطل وقته حتى أهدى للزجل انتصارات لا تُحصى، ومن دون مرتزقة، وأسّس له إمبراطورية بعاصمتين: هو والدفّ.
موهبة زين شعيب الشاسعة الأطراف والمتواصلة الإزدهار، لطالما كانت تأمر بجلاء الدخلاء على الفنّ الزجلي، وأكثرهم فرائس سائغة لها. لقد وثّقت موهبته علاقات التحالف مع الإبداع، واختالت في ربوعه، وضربت حصاراً حول العاديّين من شعراء المسارح حتى خنقت أنفاسهم. لقد أيقنت هذه الموهبة أنّ أمامها أعمالاً جساماً، فاعتصمت بالقدرة في حملات نصرها، ونصبت هيكلاً للشعر المحكي ارتفعت أركانه على يد كاهنه الأعظم : زين شعيب.
في مملكة الزجل، حيث مهندسو القول، خشب المسارح باهظ. والوحيد الذي يتهلّل وجهه هو الذي يرقص له المسرح إذا غنّى. وإذا قيل إنّ زين شعيب هو طاغية المسرح، لا يُفتَن بالمجد الكاذب والحمد المصنوع، فليعلموا أنّ لكلّ عراق حجّاجاً. لكنّ شعيب كان أكرم الناس عِشرة للمسرح، حتى إنّ خشب المسارح لمّا قلّ أمره، إقتات من دفاتر زين شعيب فعاد إليه لونه.
زين شعيب الوجيز اللفظ ببليغ الكلام، زاد لغة الزجل ثروة، هذه اللغة التي هي أقرب الى تصوير أغراض الحياة من سواها، وليست عنصراً دخل في حكم المبتَذل بكثرة الإستعمال. فزين شعيب المُجيد استطاع أن يلقي عليها مسحة من الطرافة والجدّة، فراجَعها رونقها المعهود. لقد فاتش شعيب اللغة ليعرف ما عندها من سرّ أو كفاية فحصّلهما، فإذا باطحَ سلّط على لغة الشّعر مزاجاً بطولياً، وإذا تغزّل اكتست هذه اللغة لون عاشق. أما اتهامه بالصنعة والإِغراب، إذ يتعمّد أن يدسّ في شعره ألفاظاً يولّدها فيُدخل في كلام العرب ما ليس من كلامهم، فإنّ جمال الإبداع في شعره يُسقط عنه تهمة الإختلاق.
إنّ إقبال المسرح على زين شعيب هو كإقبال ذوي الحاجات على البرامكة، خصوصاً أنّ أهل العصر من ذوي الفهم، والذين أسرف الشاعر في إمتاع أذواقهم، كبحوا الكثير من الدّاخلين زوراً الى مِلاك الزّجل، وكشفوا عورات الذين يدّعون الموهبة وهم نكرات، فطردوهم من الهيكل. إنّ شعر شعيب، الذي لطالما كان ذلك الرونق الذي يروق السّامع المتطلّع الى خصوبة التصوّر والتعبير الخلاّب، إن هو إلاّ كتاب أدب يقدّم للناس واحدة من أهمّ المجموعات التي تُغذّى بها الأندية ومجامع القول.
زين شعيب لم يكن إلاّ جريئاً، وجرأته كانت جامحة لا يقوى على تكاليفها إلاّ مَن بهرت موهبته معاصريه، وجعلته في الصف الأول من صفوف المبدعين. أما الجرأة عنده فليست في مصاحبة الكبار فحسب، بل في الإبتكار المرتجَل الذي وإن شقي الأكثرون في التماسه، غير أنه يطمئنّ الى تتبّع زين، ويسكر حين تُرفَع للرجل حُجُب الأسماع. والإرتجال مع زين شعيب ليس طلباً لإحسان أو خلاعة شعرية، إنه القدرة على إسباغ ثوب الجلال على الشعر، أو هو ظمأ لا يُروى إلاّ بالزُّلال، أو هو اقتران العبقرية بسرعة استحضار ما يليق باللحظة، وقياسه هو شهقة المُغمى عليه وقد عُقِل نطقه لهول الدهشة.
يكفي زين شعيب أنّه إذا استَرجع الناس شعره، يصبح العَيِيُّ قوّالاً.