Articles

Art in the press

طانيوس عبدو المصقول بالرقّة

بقلم : الدكتور جورج شبلي

من أهل الأدب مَن يتناول الشعر الشّعبي بالتجهيل، ويجتهد بالشكّ في سلامته من الضّعف، ويُطنب في إظهار معايبه، وفي ذلك ظلم للأدب الذي فيه. أمّا الإنس الذي ينفرد به هذا الشعر، ففي ملامسة قلب المرء الى حدّ التشارك في عدّ النّبض، وكأنّه منه أقرب ممّن ناسبه الى أكرم آبائه، وشاركه في أفخر أنسابه، وقاسمه في أزيَن أوصافه. من هنا، كان شعراء الزّجل الشعبي أعزّ من أن تؤخذ عليهم هفوة أو تُحسب لهم سقطة.

طانيوس عبدو، بقوّة أسره، سترَ على الزّجل ونفى الظنّة عنه وقام في الإحتجاج له كلّ مقام. وهو، برقّة شعره وعذوبة

معجمه وسلامة ألفاظه من الوعورة، أكّد على سلطان الجمال الذي ليس على رتبة واحدة مع مكوّنات الشعر الأخرى.
لا سيّما وأنّ طانيوس يؤمن بأنّ الشاعرية روح يتمرّد بها صاحبها، وأنّ الشّعر هو الأداة التي يُعرب بها الشعراء عمّا يريد الله أن تُصَوَّر به محاسن الوجود. وشعر طانيوس عبدو صدٌّ للكَدَر ونفور من الرّديء ومعالم القبح، وهو لم يكابد في عمارة الجمال، فترك لسانه مسترسِلاً لما أمدّته به قريحته المتوقِّدة ولما أَقبَل عليه من ذوقه السّليم.

قبل طانيوس عبدو كان الغزل في الزجل مستقراً في أمن وسكون، فجاءه هبوب هذا الشّاعر يحرّض على الإفتنان بما فيه من بريق. فطانيوس في غزليّاته تيّمه الحبّ وأسره العشق، فمن دونهما يتحوّل الإنسان الى ثعبان. إنّ شوقه العفيف الى المرأة هو شوق القمم الى الضّباب وحنينُ الأغصان الى البراعم، حتى أنّه كان يودّ لو يُشَقّ صدره ويُطبق على الحبيب ليحلّ في قلبه حتى ينقضي الدّهر. فهذا الرّجل الذي رُوِي من ماء الوصل فما زاده إلاّ ظمأ، يتحدّث صادقاً عن أسرار قلبه، ويتصرّف في مذاهب الغزل تصرّف المالكين، ويسقي الحبر بالدّمع لمّا سقى المحبوب الحبر بِريقه. من هنا، كان شعره في الغزل أَغَضّ عيشِه وأَنضَر سرورِه، بالرغم من أنّ الوجد قد أضناه، وأنحلته شدّة الكَلَف، لكنّ الحبّ وحده أمسك رمقه في الدنيا.

طانيوس عبدو الصفيّ الذّهن والنقيّ الحنجرة، لم يحلّ مئزر لسانه إلاّ للسّهل السّلِس، ولم يعلن عن غزله في تعابير لا رونق لها ولا ماء. فبأيّ عِشرة عطرية كان يتكلّم عن رسائل الحب، هو المُستعصم المهذّب الذي صقلته رقّة الطّبع، وأُلهِم الفصل بين الحسن والقبيح وبين الشّوق والشّهوة. وعندما غَبَّر غيرُه الحبّ بالعربدة، إلتزم بمحمود القِيَم، وهو الوكيد المحبّة للعفّة، فتغزّل من دون فسوق، ووصف من دون أن تجلب مناظره الأهواء، ولم ينشر بصره على غواية، أو يشغل خاطره في الفتون، لأنّ في ذلك سلوكاً يقود الى مهلكةٍ لِتُقى الحبّ. وقد تمثّل طانيوس الإشتياق موصولاً بالتصوّن، فالجمال أَمنَع من أن يدرك أسبابَه مَن يطمعون في اللذة، لذا كان طانيوس رجلاً قليل الأمثال بين رجال الوجدان، حتى في صيانته الحبيب الذي يعتقه الشاعر من لمس الأرض، إذ يقول :

" بتنزّلي أربع خمس نجمات يتكتّفو ويمشو حواليكِ
ويفلشو رموشن على الطرقات مطرح الْ بتدوس رجليكِ "

إنّ دراسة الحبّ، وهو أنفس ما في الوجود، باب من أبواب علم النفس لا يتقنه إلاّ الأقلّون. وقد يهزّ النقّاد أكتافهم حين
يشغل شاعر الزّجل نفسه بالكلام على الحبّ والمحبّين بتعمّق واستقصاء، فذلك عصيّ على بسطاء القرائح، وفي المقابل ليس بكثير على هذا الموضوع واحدِ البراعة، أن تنقضي في درسه أعمار الأئمّة والبحّاثة. كان طانيوس أَظهَر شعراء الغزل في عصره، إذ يبدو من ثنايا كلامه أنّه خَبر النفس الإنسانيّة في فطرتها، وعرف ما تُرزَأ به من بلايا الحبّ، وكيف يصطرع الشكّ والرغبة في ممالك النفوس. وقد يبدو هذا التوصيف مدحاً فضفاضاً يُلقى على شاعر زجل بلا حساب، لكنّه توصيف بريء من التكلّف والمغالاة. فمَن أراد أن يسمع سحر النّظم وذَوب الظِّرف وبديع ألوان التعاتب، فَلْيستنشد قصائد طانيوس وما تسفر عنه من مُلَح تختلط بأجزاء القلوب، وهي قصائد لم تُشَبَّه إلاّ بشيم صاحبها وآثار حبره وفرائد شمائله.

الصورة أبهى ما في شعر طانيوس لأنّها لحظات لؤلؤية ورياض معمورة وسجيّة بلا تعثّر، وهي أرقّ من نسيم الأسحار لأنها صنيعة الجمال، وهو النّور الوهّاج الذي لا يثبت في مواجهته إلاّ أصحّاء العيون. لقد وضع الشاعر أمام سامعيه وقرّائه ما يطرب له السّمع، وما يأنس به الطّبع، فالرجل الأَملك في التصوير، لم يفسِّح له الإبداع الخروجَ عن تكحيل الشعر بالصورة، هذه التي يأتيها رزقها مع طانيوس وهي نائمة. وقد قرأنا أنّ الصورة في الغزل تدّعي بأنّ طانيوس عبدو خالها، وهي بنت أخته، فلم نصدّق حتى سمعنا قوله في وصف أمٍّ خصلةَ شَعر ولدها:

" الله بإيدو مطرطشها بكبوش التّوت ".

لو كان الغزل عاراً على الشّعر، ولو لم يعد بعضَ أدوية السَّمر، لَوَجَب أن يُمحى اسم طانيوس عبدو من الدواوين، وأن يُحذَف ذكره إذا عُدَّت الطّبقات.