Articles

Art in the press

الى أين يالبنان المقاومة والجمال؟ الخليج الثقافي 2007-11-17 أوراق ثقافية... الفوتوغرافيا تسجل لحظة التشبث بالتراب الغالي

الذي لا يعرف كيف يكتب البعض في هذا العالم تاريخ الإنسان الآخر، عليه أن يقتني هذه العلبة السوداء أو الفضية التي اسموها “الكاميرا”، لأنها محايدة إلى درجة الجليد، وهي وحدها التي لا تملك أجفاناً لكي ترف أو تدمع، إنها تحدق في عيني الضحية وفي قبضة الجلاد على مستوى واحد من العناد. لذلك دعونا نصدق بأعلى درجات الصدق والحقيقة كل ما ترينا إياه هذه الآلة الباردة.

eyes_crying

عمران القيسي

هناك عين زرقاء مثل الأبيض المتوسط ساعة الظهيرة، تنظر وهي تدمع، ربما ما تراه حالة دمار قصوى. وربما حالة رحيل، لكنها ليست حالة فرح بكل تأكيد.. من هنا سيأخذنا سريان الدمعة صوب الجانب الآخر من الصورة. ذلك الجانب الذي نراه بلا عيون، ونحس به كجزء من مخاوفنا أو من نبضات قلوبنا، ففي الحرب تزدهر الأحزان وتستحيل إلى حدائق مروية بأنهر من أحزاننا الوافرة.

الصورة عالم عياني لا حدود له، إنها ليست ما تحتويه من لقطة للمكان وثبات للحركة، بل هي حتماً لحظة (زينون الرواقي) ذلك الفيلسوف الهادئ، الذي قسم الحركة على المسافة مستنتجاً المسافة الأصغر للحظة الأصغر حين تصل فيه الحركة إلى مستوى الثبات. ومن مجموع الثباتات هذه تتابع اللقطات فتصير حركة لها زمانها الذي يربطها من البداية لحظة الانطلاق- إلى النهاية لحظة الوصول.

لذلك فهذه العين التي تدمع ليست معزولة على الإطلاق عن الحدث الذي يسقط عليه النظر، حيث تتحرك اللواعج وتسخن الدموع في المحاجر. ترى هل عرفنا كيف يتم تدوير المربع في عالمنا الذي لا يتعارك مع المنطق لكنه لا يتصالح وإياه بموجب قوانينه القسرية؟

فالقوة الغاشمة وإن كانت هي المخرز، إلا أن أعيننا غير قابلة للعمى لأنها تبصر التحديات، وتتعارك وإياها على مساحة صغيرة نسبياً تعارفنا وأقر العالم بأن اسمها لبنان.

الصور من لبنان إذاً.. ومنسق الأحزان رجل له مواصفات (كوزموبوليتية) حداثوية استبق زمانه كثيراً، اسمه نعيم فرحات، قال إننا لسنا بحاجة لصورة تبين أجساد القتلى الممزقة وصورة الدم المراق على صفيح السيارات واسفلت الشوارع. بل نحن بحاجة إلى هذا الإنسان الجميل لحظة مشاهدته للفجيعة، فالعالم بات معنياً اليوم بردود الأفعال أكثر مما هو معني بالأفعال.

في زمن الحريق أنت لا تنظر إلى جذع السنديانة وهو يتفحم بل إلى ألسنة اللهب وهي تتسلق شجرة سنديان أخرى.. هنا الإنسان المثكول أو المفجوع بما يراه، عينه، وجهه، حركة أصابع يديه، ربما شفاهه العاجزة عن النطق. كلها تجرنا لأن نرى الصورة من زاوية أكثر عمقاً.

في هذا النص البصري الذي أقدم نعيم فرحات على جمعه وتحويله إلى ملكية مرئية عامة، سواء عبر الكتاب أو عبر الشريط السينمائي، نعيش إنسانيتنا المشحونة بشتى المشاعر والانفعالات لأن ما يجب ان نفتح حياله مغاليق ضمائرنا هو المستقبل المزروع على وتد السؤال الكبير.

ترى لماذا نسجل أحزاننا في هذا السجل؟ ولمن نريد أن نقدمه؟ وهل العالم فعلاً لا يعرف هذا الذي تشهد عليه الكاميرا اليوم؟

إننا نصور كل شيء لهم أولاً ولنا ثانياً، فالقتيل أصلاً ليس بحاجة إلى شاهد يؤكد أن السكين مغروزة بقلب القتيل الماثل أمامنا، إنها السكين وإنه الجسد، وإن كانت الصرخة قد سبقت استكانة الروح. لذلك نحن نقدم البديهة الاولى والأخيرة. فقط نريدهم أن يفتحوا سجلات في أراشيف وثائقهم للذي يجري عندنا وعلينا اليوم.

نحن نكتفي بالانتظار، فنحن كما اعترفنا أكثر من مرة، موتى على لائحة الانتظار معنى ذلك أننا أيضاً نراهن بثقة على المستقبل لأننا مستمرون ومعاندون سوف نحقق كل ما نسعى إلى تحقيقه.

هل شاهدتم ماذا تستطيع الصورة أن تفعل؟ هل تعرفتم إلى القوة السحرية الكامنة في جوهر الصورة؟ بل هل عرفتم لماذا هذا الكائن الذي يعرف كيف يخاطب العقل الآخر والذي يحمل اسم (نعيم فرحات)، يؤمن بعمق بالأثر البنيوي للصورة الفوتوغرافية؟

في البحث عن شريان مملوء بالحياة، تعالوا نطالع الصور مبتدئين من العين التي تبكي.

فالصورة هنا تنم عن مقدرة على اختراع اللاانفعال من قبل المصور،علي سيف الدين بل الحيادية من قبل الكاميرا لكن وراء هذا الموقف المخترع تكمن حالة من الجيشان المفرط، لأن المصور أصر على أن يتابع أكثر العمليات صدقاً لدى الكائن الإنساني، ألا وهو البكاء.. وهنا لا يسأل المشاهد عن لمعان العين أو صفاء الدمعة بل عن السبب لذلك يحقق للصورة تاريخها فتحقيق التاريخ من الأمور الأساسية لمنح الدمعة معناها السببي.

إنها الصورة المدخل.. الصورة الأولى التي يتقدس بمرآتها كل ذاهب صوب الحقيقة لكن حتى لحالة التقديس وعيها الباطني المركون على صخرة الإيمان... فبماذا يجب أن نؤمن؟ ومن أين تبدأ خطوة الإيمان بالقادم سواء أكان قدراً أم مصيراً فردياً؟

في لقطة ذكرتني بمقولة للفيلسوف (نيتشه) قال فيها: “في مكان يظهر فيه العصاب على السطح، نجده مرتبطاً بثلاثة أنظمة خطيرة هي العزلة، الامتناع، التعفف، دون أن يكون ممكناً القول بثقة أين يجب البحث عن السب أو النتيجة”- نص من بحث تحت عنوان ما وراء الخير والشر، ترجمه الدكتور محمد عظيمة، ونشرته دار الكنوز الذهبية -.

لذلك حين ننظر إلى هذا المكان الذي خصص للصلاة لأنه حيز صغير مخصص لأداء فريضة الصلاة، بدلالة وجود المحراب وبعض الحصائر والبسط على الارض.. وحين قصف هذا المكان ألغت القنابل أكثر من نصفه، أما الذي تبقى فهو قسم معلق في الفضاء، مساحة بلا حائط تقريباً، فضاء فسيح بالغ الإضاءة بالأزرق السمائي، نعرف من اللقطة أنها الجزء الذي لم يتهدم من هذا المصلى، وربما ذهب السلم الذي يربطه مع الأرض لكن هناك من رصف بعض الحجارة وأقام صلاته في هذا الحيز.

بضعة رجال يصلون على أرضية مصلى معلق في السماء ترى هل أدرك هؤلاء انهم قريبون فعلاً من الله؟ أم ان التحدي الذي مصدره الامتناع عن قبول الواقع الجديد الذي اخترعته القذائف، بدل أن نتطرق مثلاً إلى سايكولوجية التعفف عن حالة التراجع الفردي، والانتماء كلياً إلى عملية الإقدام والمعاندة الجماعية.

نلاحظ أن محتوى اللقطة الفوتوغرافية أحالها إلى موضوع خطير قابل لشتى التأويلات الفكرية والدينية والسياسية والنفسية، وهنا يبدأ الدور البحثي للقطة ذكية من كاميرا مصور صحافي احترف التقاط كل ما هو استثنائي. ولكن هل هذا المعاند الذي نصب خيمة على مقياس جسده أمام بيته المقصوف في ضاحية بيروت، هو نمط شيأته الحرب، وارتجلته المحنة؟

علينا أن ندع الالتباس جانباً، فكل كائن يحمل قابلية التشيىء في اللحظة المناسبة، وبدلاً من أن نرى الجانب الوقائي من هذه الحالة، لا بد وأن نذهب صوب الحالة المعاندة للفلاح الذي يحرس حقله معاركاً الأنواء والطبيعة وكل عدوان في الطبيعة، فهنا يتوحد مفهوم الرزق بين الأرض في الجنوب، والشقة في ضاحية بيروت إنهم البشر الذين يصرون على البقاء فوق ركام أرزاقهم، وهنا مفهوم آخر لموضوع اختارته الكاميرا بحيث تتحول الصورة إلى نص بصري يوازي أي نص بلاغي آخر.

وغالباً ما يركز المصور الصحافي على الطفولة، ربما للسعي إلى قدر من التعاطف، ولكن صورة الطفل جريحاً أو مرتعباً أو مستغرباً هي التي تستطيع أن تقيم أعمق الآثار على وعي المتلقي الذي يرى الصورة، لأن المصور بحد ذاته، سواء قصد ذلك أو لم يقصده يؤمن بأن الوعي منتشر بين كل الذين يسقط نظرهم على الصورة، هنا صورة الطفولة لا تستدر عطفاً على ماذا العطف؟- بل تحاكي وعياً وتدفعه لتركيب معادلة مبدئية قوامها أن ما تراه هو نتيجة حصلت عبر وسيط مدمر وتسببت بهذا الوضع اللاطفولي للطفولة التي اعتدنا أن نشاهدها عبر الصور الاعتيادية بغير هذا المظهر المؤلم.

الطفولة لا تستعطف العطف من الآخر، بل تأخذه بحكم كونها طفولة، والآخر الذي ينفعل لرؤية طفل جريح أو مقتول لا يسفح عواطفه في المكان الخطأ بل في المكان الذي هو جزء من طفولته إننا ننحاز بوعي عقلي كامل إلى طفولتنا في مثل هذه اللقطة المناسبة جداً لدفعنا إلى المزيد من التماسك.

هل الفن الفوتوغرافي بلقطاته الإنسانية هو فن يؤسس لمساحة جديدة من الثقافة البصرية؟

سؤال طالما طرحناه حين نشاهد معرضاً فوتوغرافياً حيث مشكلة النقد مع هذا الفن تقوم على مثلث اشكالي قوامه:
أولاً : المستوى التقني للقطة ومدى احترافية المصور الذي يعرف أن يختار الزاوية الأجدر والأهم. ثانياً: العلاقات الضوئية، لأننا نقف أمام حالة ضوئية (فوتو) بكل ما للكلمة من أبعاد، لذلك قيم النقد سابقاً لقطات بالأسود على الأبيض انطلاقاً من هذا المعيار.

ثالثاً: موضوع اللقطة، وهنا لا بد وأن نقسم موضوع الفن الفوتوغرافي إلى قسمين أساسيين، قسم موضوعي أي أنه يصور الحدث أو الإنسان كموضوع يرتبط بالذاكرتين الزمانية والمكانية، فيما القسم الثاني غير موضوعي أو مركب من خلال لعبة التداخل والتمغيط واختزال الألوان.

إن حسم هذه الإشكالية معناه أننا بدأنا نبحث عن الاتجاه الجديد لهذه المساحة الفنية الفوتوغرافية التي تلتقي كلياً مع فنون (الكونسبت) المفاهيمية، وهي من أحدث موجات الفن المعاصر، حيث تلتقي عدة فنون في فن واحد، أي من التأليف النحتي القائم على علاقة الكتلة بالفضاء إلى الفنون الإعلانية ذات المحاكاة المباشرة إلى مبدأ الصدمة عبر استعمال شتى المواد من الفوتوغرافيا إلى الفيديو إلى الليزر إلى آخر ما هناك من امكانات تأليفية.

يبحث الخبير الأمريكي من أصل لبناني “نعيم فرحات” عن قاسم مشترك بين عدد من المصورين اللبنانيين الذين عاشوا الأحداث القاسية لوطنهم ولم يجد سوى الهاجس الإنساني الذي يحول الموت والدمار والأشلاء إلى إعلان مصور بل الحالة الانفعالية للذين عايشوا هذه الأحداث المأساوية لأن ملاحقة الصدى تأخذك إلى الاتساع اللانهائي، والمطلوب هو ان نفتح عيون العالم على هذا المدى الإنساني الكبير الذي نتحرك فيه ليس كضحايا ولا كمهزومين بل كمعاندين نصر على أن نختار نحن النهايات.