Articles

Art in the press

فلسفة الحنين في أدب المَهاجِر بقلم : الدكتور جورج شبلي

georges-chebli

عندما يقود الحنين جولةً في كتاب الغربة، أكثر ما يعرقله زحام الذكريات، فيقع في أزمة. هو لا يستطيع أن يَقتَطِف، ولا أن يتوارى، ولا أن يُميت نفسه شهيداً . في يده فقط أن يعيش طريداً، مُنَغَّصاً، مَغصوب الرّاحة، لأنّه إرثُ المِحنة، محنةِ تمريغ الكبرياء بِكَسرة الوجدان . ولكنّ الهزيمة المُشتَدَّة أمام المَشاعر، ما هي سوى ثَوابٍ للذين تتحرّق عواطفهم السَّكرى الى الأوطان، والشّاذةُ عن قوالب العقل، والتي يَتَطاول عليها البكاء فترضى .

في المَهاجِر حيث يناضل الشَّوق، أكثرُ من طاقة زهر قُطِفَت قبل أن تَعْقُد . لعلّه فَقدان الأمكنة الى الدَّفء، والذي يُبايِع الوجع، ما جعل الزّمن يغفو فوق رسائل لم تُقرأ، كتبتها المسافات . فأدباء المَهاجر عندما يَخفون دمعهم، فعلى لَباقة، واحتراماً للحنين فهو ليس من طِراز العواطف التي تَنصَبّ في إناء الشكّ، أو التي لا تتفجّر من غير مَشَقّة، إنّه كلسان الشّمعة لا يخرج إلاّ من صِدع القلب . من هنا فالحنين المَهجريّ مُغرَمٌ بالخَجَل، لذلك يبدو على ضَعف، فلا استكثار عليه بالشَّفَقَة، غير أنّ القاصِد إليه يخضع لِسَطوَته فلا يجد فيه أثراً لإلتواء، فهو يشكّل وحده طريقاً لا يشاركه فيه أحد .

الحنين في الأدب المهجريّ إتّجاه فلسفيّ يحمل تساؤلاً من دون أجوبة، وعندما يلحّ عليه السؤال يُغرِق نزعة المعرفة بالهروب . لذا فالحنين ألم مَحتوم، ولكن بذكاء، فهو مسافِر أبداً على بساط ريح الى الجزء المُظلم من الحقيقة حيث يعاني الوضوح سكرات الموت ، ليأنس الحنين بعد ذلك الى غُربة لا تلبث أن تستعبده . هذا الصّراع لم يقترحه الحنين مُكرَهاً، ولم يَدفعه إليه القَدَر، بل قَصَد الى الإنقياد له لِيتفادى ضجيج الشّوق النّازف والذي لا يُمهِل .

الحنين ثورة ليست مَزعومة، وهي خالية من العُيوب لإنّها مَعقودة على البُعد الإنسانيّ، من هنا، فهو لا يستجير بل يبايعه كلّ مَن غَنّى في اشتياق، حتى قيل : إنّ أيّ شاعر مَهجريّ لا يعترف به الحنين، فهو ليس شاعراً . لكنّ شعراء المَهاجر، أمام ظاهرة الحنين، لم يتستّروا على مواقف متناقضة تتراوح بين رغبة في تَجاوز الظّاهرة وبين مَيل الى المحافظة عليها بشكل حميميّ . وربّما يعود هذا التّناقض الى سرعة نبض الإستشعار بالحنين أو تَمَهُّله، وربّما الى الخوف من تَفَلّت المَشاعر من قُمقُم تَطويعها لِرقابة الإعتدال، فتتولّد لديها رغبة طُغيانيّة تطالب بإسقاط قيود العقل، ليسودَ سلطانها بلا ضوابط .

إنّ أوّل شعور بالحنين هو الذي يُعَوَّل عليه في سلسلة المُسامَرة الحنينيّة بين الأديب المُهاجِر وذكرياته، وكأنّه بِكْرُ قطرات ندى فوق زهرة ذابلة، ثمّ تُكرِّر الذكرى نفسها، حتى الفرح فيها موجِع وقابِع في زنزانة عَطَش أبديّ لا يرويه حَمَلَة الجِرار . وفي غَفلة، ينتشي الخيال، المُتَوَلْدِن، بالحنين وكأنّه دليل سياحيّ عابِر للأمكنة بسرعة، وإذا توقّف عند مفصَل فَلِأَخذ نَفَس، عندها يتنبّه الخَيال الى أنّ الواقِع مُزَوَّر وخائن، فيبكي. والمُؤلِم أنّ الحنين حزنٌ لا يَصدَأ، فنهر الدّمع لا يَنضب أبداً .

إنّ الهروب الى الحنين في أدب المَهاجِر هو أكثر ضَراوةً من قَسوَة الحقيقة، وتالياً أكثر إيذاءً، أوليس الأجدى هنا أن يترجّى الأديب الإنسان له نوماً من دون أحلام ؟