Articles

Art in the press

بلاغة اختراق العتبة - حوار مع التشكيلي المغربي عبد العزيز العباسي، حاوره: أحمد الويزي - المغرب

عمان للفن شباط 2002 - عدد رقم 80

بمثابة تقديم:
منذ ما يربو عن ثلاثة أعوام، وأنا مشدود إلى عوالمه المدهشة بخيوط الألفة والترقب. في دواخلي المستطلعة، نما إدمان جميل لا يقاوم. صار يُسلمُني في الأوقات الميتة التي تفصل بين معارضه، إلى الاحتماء بذاكرة الأصدقاء المقربين إليه، للنّبش في ما تختزنه من حكايات خاصة، ووقائع غضة طرية لا تزال، بغية رتق بياض الوقت الميت بألوان من ذكريات حميمة تقربني من عوالمه المستغلقة، وتعرفني على بعض التفاصيل المنفلتة في أسلوب حياته وفنه..

لم أتعرف عليه إلا فيما بعد...
بالتحديد، بعد سنتين ونصف من الانشغال بالأثر الساحر للوحاته على أغلب المهتمين- محلياً- بالشأن الثقافي والفني.. إذ كان يكفيني أن أسمع عنه من بعيد، وأترك اللوحات الصامتة تحكي، وأنا جاثم أمامها في طقس اندماج وخشوع.. هو نفسه لا يسعى وراء بؤر الضوء والشهرة.. سليل الصمت الظليل وعاشق السدفة والفيلجة، هو دائما.. يترك اللوحات ودفتر الإرتسامات ينوبون عنه في قاعات العروض، ثم يغيب... يحتويه الفقد والغياب، إلى أن يصير حكاية.. تماما، مثلما حكاياته التي ترويها اللوحات الصامتة.. حكاية عبد العزيز العباسي الحاضر/ الغائب دوما..
غير أنني في المرة الأخيرة، قررت اختراق العتبة لاقتحام بيته الرمزي (اللوحة) اقتحام المحاور المتتبع، مستهديا بأثر التلقي المتفاعل الذي راكمته في دخيلتي، طوال ثلاث سنوات.. كانت المناسبة سانحة، بامتياز.. طرقت باب عزلته على هامش المعرض الأخير خلال شهر رمضان (بالمقهى الأدبي "تافيلالت")، فكان بيننا هذا الحوار المؤثث بالبياض والصمت أكثر مما هو مرصع باللغة التي تفصح وتكشف، لأن مشاكل اللغة في الفن غير اللغوي _ كما يقول رولان بارت عن حق_ لا حل حقيقي لها، على الإطلاق. إذ هي تنتكص على ذاتها دوما، وتعجز كلية عن ترجمة ما تمور به الأقانيم الجوانية عند الفنان الأصيل.

woman_art

*في البداية، من هو الفنان عبد العباسي؟
- عبد العزيز العباسي من مواليد 1957 بمدينة بني ملال. أستاذ لمادة الفنون التشكيلية بمدينة مراكش.. لدي بعض الحضور الفني من خلال العديد من المعارض الفردية والجماعية التي ساهمت فيها بالمدن والقرى المغربية التي أذكر منها مثلا: بني ملال، الفقيه بن صالح، مراكش، مكناس، تازة، أبي الجعد وغيرها...

*يبدو من خلال المعرض الأخير، أنك تحررت من تجربة اللون الأسود... ما الذي جعلك مأسورا إلى تلك التجربة؟
- الأبيض والأسود (الحبر الصيني الأسود) تقنية من بين تقنيات التعبير التشكيلي...
أعود إليها كلما شدني الحنين إليها وكلما "فرضَتها" المواضيع التي أشتغل عليها... هي وسيلة ترى أنها أقدر على ترجمة إحساس معين في ظرف زمني معين.. قد تتغير الأحاسيس والأفكار، قد تصبح أكثر تعقيدا وأكثر عبثية، أقل تكلفا أو أكثر نضجا.. عندها ستختار التقنية المناسبة التي تراها أكثر وفاء لإيصال ما تحس به.

*في أعمالك المعروضة أخيرا، يعيش اللون البني وضعية توتر بإزاء بعض الألوان القليلة الأخرى (الأزرق- الأحمر- الأصفر)، غير أن البني مع ذلك، يبقى مهيمنا.. ما الذي يجعل وحدة اللون عندك طاغية؟
- سيلاحظ المتتبع لأعمالي أن اللون الأحادي لون واحد (بني أو أسود) كقيمة ضوئية ضعيفة وبياض الورق كقيمة ضوئية عليا وبينهما تدرج القيم الضوئية الأخرى) هو التقنية التي بدأت الاشتغال بها.. أما اللون الأزرق- البرتقالي أو الأصفر، فبدأ يتسلل إلى أعمالي باحتشام كبير. فما زال اللون البني ( لون صمغ الجوز) هو الطاغي.. قد يترك مكانه للألوان الأخرى.
أنا أشتغل – حاليا – على وحدة اللون وعلى وحدة الموضوع، وأعتبر العمل بهاته الطريقة انسجاما مع أسلوب يوفي للموضوع حقه ولتقنية التعبير حقها، أشبه ما يكون ببحث يتوخى للإلمام – قدر المستطاع – بجوانب الموضوع كلها وبإمكانيات الأداء كلها.

women_art2

*وهل هيمنة البني الآن، إنما هو حنين إلى تجربة اللون الأسود؟
- هيمنة البني استمرار لتجربة الأسود. سأكون حرا في الاشتغال بأي وسيلة.. لن أربط أسلوبي بالتقيد بتقنية معينة أو بمادة معينة.. سأكون صادقا مع نفسي ما استطعت سواء اشتغلت بالتنقيط (الأسود والأبيض) بالبني (صمغ الجوز) أو بالكولاج أو بالصباغة.. أية صباغة كانت..

*الموضوعة المهيمنة على لوحاتك عموما، هي الإنسان في مختلف مراحل العمر والأوضاع.. لماذا الإنسان بالتحديد؟
- هو اختيار آني حفاظا على وحدة الموضوع.. قد تكون الموضوعة آلة موسيقية، مصباح بنزين، "فزاعة" أو أي شيء آخر أركز عليه لألفت اهتمام الناس إليه كسند محمل بالأحاسيس والرموز والأفكار والجمال.

*خصصت معرضك الأخير للمرأة المغربية التي تحمل سمات التقليد والعتاقة (الإزار/ الحايك الذي يخفي ملامح الوجه وتفاصيل الجسد ويوحد بين جميع النساء). في مواجهة بعض عناصر الحداثة في الشارع/ الخارج (أعمدة الإضاءة، إشارات المرور الضوئية...). هل هو ارتباط بما طرح سياسيا في المغرب؟. أقصد "مدونة إدماج المرأة في التنمية" التي أثارت ردود فعل قوية داخل المجتمع المدني والسياسي؟
- أنا أعتبر المرأة كالرجل تماما، متساويين في الحقوق والواجبات، لكل منهما مميزاته هي نقط قوته التي يكمل بها كل واحد منهما الآخر.. "فالحايك" نفسه له جماليته الخاصة كما أنه يوحي بجمالية غير مفضوحة لجسد المرأة.. فالإيحاء بجمالية الشيء أجمل من الشيء نفسه وليس الرجل أقل جمالا من المرأة.. أما بالنسبة لي فلا فرق.. هي موضوعات مهمة وغنية للاشتغال، والمتلقي له حرية القراءة والتأويل والاجتهاد وبالتالي التقدير والتقييم..
المرأة تحت مصباح الإنارة العمومي قد يعني موضوع المرأة الذي سلطت عليه الأضواء وغدا على موائد المناقشة والمناظرات. المرأة أمام الضوء الأحمر هو علاقتها بالقوانين التي تؤطر علاقتها بمكونات المجتمع،، ربما،، لست أدري؟!

women_art3

*في اللوحات الأخيرة، نلاحظ أن وضع المرأة المكاني عامة هو العتبة باعتبارها فاصلا بين عالمين متناقضين: الداخل والخارج.. لماذا اخترت العتبة بالضبط؟
- العتبة، النافذة أو الباب، السلم الحجري أو المنصة هي عناصر إيحائية بكل تأكيد: المرأة في مجتمعنا على مشارف تحول معين، على أبواب مستقبل غامض المعالم، على درجات طريق يفضي إلى عالم أوسع وربما إلى مجاهل لا يمكن التكهن بخطورتها، وفي الوقت الراهن ليس الرجل أكثر حظا من المرأة. قد تأخذ العتبة دلالات مختلفة لكن بالنسبة لي أولاً هي مساحة على الورق تدخل في معادلة البحث عن توازن تشكيلي يحقق- إلى جانب الموضوع – الدهشة والمتعة أولا وقبل كل شيء.

*بعض لوحاتك تحكي وتحرض، خصوصا تلك التي يظهر فيها تكتل النساء.. هل تؤمن بأن وظيفة الفنان هي التحريض؟!
- نعم، وظيفة الفن أولا – عندما يكون صادقا – هي أن يغير فينا شيئا ما نحو الإيجابي، وهو بالتالي تحريض على حب الحياة. وإذا حرضنا على حب الحياة حرضنا على الدفاع ضد أي شيء أو أي أحد يحول بيننا وبين حقنا في الحياة.

*تعتمد الحكاية في لوحاتك على النمو والتواصل الزمنيين، مما يجعل فضاء اللوحة الواحدة ضيقا، فتتجاوب اللوحة مع جاراتها الثلاثة (=تجربة الأوضاع الأربعة للوحة).. ما الذي يبرر الحكاية المتنامية عنك؟
- هي محاولات يائسة للإمساك بما لا يمسك به.. هي رحلة البحث عن تلك الصورة التي تستعصي على الاقتناص... هي محاولات لخلق إيقاع ولتقليب الموضوع من جميع جوانبه لاستخراج إمكانيته التعبيرية.

*في لوحات محددة، نصادف بعض الأشياء التي ألفناها في الحياة اليومية العامة يتسلل إلى لوحاتك (علبة أعواد الكبريت، أوراق اللعب، علامات الإشارة الطرقية... الخ)، لتتفاعل مع الموضوعية الرئيسية التي تشتغل عليها (المرأة).. ألا تخشى أن تتحول اللوحة بذلك، إلى مجرد رسم كاريكاتوري ( أشير هنا إلى لوحة انتهاك المنع تحديدا)؟!
- الكاريكاتور فن قائم بذاته، تتجمع فيه كل العناصر لتخدم فكرة محددة.. لتقدم خطابا واضحا لا يقبل الكثير من القراءات والتأويلات.. وهو ليس تعبيرا ناقصا حتى تستعمل – كما جاء في السؤال – كلمات مثل (تخشى – مجرد)..
وبتطرقها لموضوع المرأة ووضعها الاجتماعي وبالخطاب الدلالي لأوراق اللعب وعلامات المرور معلب الكبريت تكون أعمالي هاته قد لامست فعلا، فن الكاريكاتور بما يثيره من سخرية وتصعيد للمأساة.

*تظهر في اللوحات رسومات خطية موازية (=كتابة كاليغرافية مبهمة وغير واضحة) تطوق وضع المرأة.. ما هي الأبعاد التي تعطيها لذلك؟
- هذه الكتابة يجب التعامل معها كعناصر غرافيكية لها وظيفة جمالية، وليس نصوصا تحمل مضامين معينة.. ما يهمني فيها أولا هو وظيفتها التشكيلية والرمزية: هو تأثيث لفضاءات موحشة بالفراغ أو بالامتلاك.. هو لفت الانتباه إلى جزئيات تهملها العين.. هو إيحاء بالتاريخ.. بالذاكرة.. بالحنين.. وبإصرار الإنسان على تأكيد وجوده وترك بعض الدليل علي عبوره فوق هذه الأرض.. ربما!!

*هل الفنان العباسي يشتغل في أعماله المنجزة لحد الآن، بمبدأ الفكرة المسبقة أم أنك تترك الحرية لخيالك كي يبدع دونما قيد أو شرط مسبقين؟
- أنطلق دائما من فكرة محددة وقد تقودني الرحلة إلى أفكار أخرى، لكن دائما ضمن حدود فكرة نقطة الانطلاق. وقد أسمح لنفسي بهوامش تغذي الفكرة المركزية وقد تتحول الهوامش يوما ما إلى مواضيع رئيسية للبحث، وليست فكرة الانطلاق بالضرورة، هي الفكرة التي يستخلصها المتلقي.

*في لوحاتك مزيج من التجارب والمدارس الفنية.. أيها أقرب إلى ذائقتك وقلبك؟
- أحب كثيرا التعامل مع الواقع بشكل تجريدي/ تعبيري، أي تجاوز الواقع والتمرد عليه وإعادة تركيبه وصياغته من جديد.. لذا أحب كثيرا أعمال ضياء العزاوي (العراق) وعبد الكريم الأزهر (المغرب)... وعموما، فالمدارس الفنية خلقها النقاد لتصنيف المبدعين، في حين أن لكل مبدع – حقيقي وصادق – مدرسته مثلما أن لكل واحد منا بصمته.

*ما هو تصورك لدور الفن في المجتمع العربي بشكل عام؟
- قد يحقق الفنان العربي ما لم يستطيع تحقيقه السياسي (=الوحدة وخلق "سوق" عربية مشتركة "وعملة" عربية موحدة بالمعنى الاقتصادي وحتى بالمعنى المجازي والرمزي والدلالي)، لذا يجب أن يعاد الاعتبار للفنان العربي، من طرف المسؤولين، وحتى يتمكن من بلوغ هذا الهدف يجب أن يعيد الفنان الاعتبار لنفسه وذلك بتنظيم نفسه بالاتحاد في تكتلات محلية، وطنية وعلى مستوى أقطار الوطن العربي، وأن يكون جادا وصادقا في بحثه وإبداعه.