Articles

Art in the press

رؤيا يوحنا "المنحولة" لكميل خباز

(كلمة د. كميل الخباز أثناء حفل توقيع كتابه L’Apocalypse « apocryphe » de Jean في دار المنى للفنون الجميلة – البترون- يوم السبت 20 تموز 2013)

apocalypse
Le livre: Apocalypse "apocryphe" de Jean

أيها الحفل الكريم،

أودّ في البدء أن أشكرَ المونسنيور بولس الفغالي، العلاّمة الكبير الذي كرّس حياته للمسيح وللأبحاث الدينية فأغنى المكتبة المسيحية بما يزيد عن مائتين وخمسة وثمانين كتاباً، أشكره على التكرّم بالاشتراك في هذه الندوة حول موضوعٍ كان ولا يزال يثيرُ الكثيرَ من الجدل، وأعني بذلك الرؤيا المنسوبة إلى القديس يوحنا الرسول التي تشكّل خاتمةَ كتب العهد الجديد.

أشكر أيضاً مجلس الفكر ورئيسته الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر على رعاية هذه الندوة وعلى كلمتها القيّمة المُشبعة بالفكر الفلسفي، كما أشكر دار المنى للثقافة والفنون على استضافتنا، كيف لا وقد رعى القيّمون على هذه الدار الكثيرَ من المعارض الفنية والحرفية والنشاطاتِ الثقافية التي كانت تلاقي النجاحَ على الدوام.

بعد سنوات من العمل الدؤوب أصدرت كتاب (L’Apocalypse « apocryphe » de Jean) أي "رؤيا يوحنا "المنحولة". وأقصد بكلمة "منحول" ما هو غير أصلي، أي أن "رؤيا يوحنا" نُسِبَت إلى القديس يوحنا الرسول وهو منها براء. وقد وضعتُ تلك الكلمة بين مزدوجين لأن رؤيا يوحنا هي، في وقتنا الحاضر، من الأسفار القانونية المقدسة بنظر الكنيسة.

ربما يتساءل البعض: كيف يحق لي، وأنا المسيحي المؤمن، أن أشكّك في نصّ تعتبره الكنيسة مقدّساً.

أقول: أنا لست أوَّلَ من شكَّ بصحة رؤيا يوحنا وأصالتها، ولن أكونَ الأخير. فقد سبقني إلى ذلك عددٌ من آباء الكنيسة وعلى رأسهم القديس كيرلّس، أسقف أورشليمٍ (315-386 ب.م.)، والقديس يوحنا فم الذهب (347؟-407 ب.م.)، أسقف القسطنطينية، وغيرهم (راجع: الخوري بولس الفغالي، رؤيا القديس يوحنا، المكتبة البولسية، 1995، ص 30). والجدير ذكره أن رؤيا يوحنا حُذفت من الترجمة السريانية للعهد الجديد (البسيطة) خلال القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد، ولم تُذكر في لائحة الكتب القانونية المقدسة التي أقرّها المجمع المحلّي المنعقد في مدينة اللاذقية في أواسط القرن الرابع الميلادي، علماً أن اللاذقية التي كانت تقع في ولاية آسية الرومانية (القسم الغربي من تركيا)، هي إحدى المدن السبع المذكورة في رؤيا يوحنا.

فما هو سرّ رؤيا يوحنا، وما علاقة يوحنا الرسول بها، وإذا كان صاحبها شخص آخر يحمل ذات الإسم، فهل بإمكانِنا تحديدَ هويّته؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ من الإشارة إلى أنني لا أوافق شارحي الكتاب المقدّس (exégètes) الذين يصنّفون أسفار العهد الجديد ضمن مدرستين: المدرسة البولسيَّة من جهة والمدرسة اليوحنّاويَّة من جهة أخرى. فالبشارة التي كرزها بولس تتوافق تماماً مع بشارة يوحنا وغيره من رسل المسيح؟ هذا ما أكّده بولس الرسول في رسالته إلى أهالي غلاطية التي كتبها حوالى سنة 57 ب.م. بعدما ادّعى أخصامه المتهوّدون أنه يعلّم تعليماً مخالفاً لتعليم الرسل في أورشليم. وبالفعل إذا قارنّا تعاليم القديس بولس استناداً إلى رسائله وما ورد عنه في أعمال الرسل، نجد أن موقفه من الشريعة الموسوية كان يحظى بموافقة الرسل وكنيسة أورشليم. ألم يؤيّد مجمع أورشليم الأول (49 ب.م.) موقف بولس الداعي إلى إعفاء الوثنيين من الختان وفقاً للشريعة؟ ألم يسبق بولسَ بعضُ تلاميذ المسيح بمخالفة شريعة السبت لإيمانهم بأن يسوع هو سيّد السبت؟ ألم يخالف سمعان بطرس فروض الشريعة بدخوله بيت قائد المئة، كورنيليوس، ثم تعميده إياه مع أهل بيته دون إلزامهم الختان؟... وفي ذروة اتهام بولس بمخالفة الشريعة، بعد عودته إلى أورشليم من رحلته الرسولية الثالثة حوالى سنة 58 ب.م.، ألم يبادر يعقوب وشيوخُ الكنيسة بتقديم النصيحة إليه للإطّهار مع أربعة رجال عليهم نذر والإنفاق عليهم لحلق رؤوسهم قبل دخول الهيكل من أجل إقناع أهل أورشليم بأن بولس لا يزال محافظاً على الشريعة؟ ألا يعني هذا موافقة ضمنية لكنيسة أورشليم على بشارة بولس ؟

إذاً، "المدرسة البولسية" هي مدرسة جميع رسل المسيح، ومنهم يوحنا بن زبدى الذي يتوافق انجيله ورسالته الأولى بشكل تام مع هذه المدرسة الرسولية. ومن الخطأ الجسيم تصنيف انجيل يوحنا ورسالته الأولى في خط واحد مع "رؤيا يوحنا" ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة، أي ما سمّاه المونسنيور بولس الفغالي "المدرسة اليوحناوية"، لأن "رؤيا يوحنا" تختلف في جوهرها اختلافاً كلياً عن المدرسة البولسية، أي المدرسة الرسولية. والدليل على ذلك أن ديونيسوس، أسقف الاسكندرية (248-264 ب.م.) أكّد عدم وجود أي قاسم مشترك، من الناحيتين الفكرية واللغوية، بين رؤيا يوحنا، من جهة، وإنجيل يوحنا ورسالته الأولى، من جهة ثانية (Eusèbe de Césarée, Histoire Ecclésiastique, VII, XXV, 1-5.).

ونعود إلى المثل الذي أعطاه المونسنيور الدكتور بولس الفغالي للدلالة على عدم أهمية لعبة الأسماء لأنَّها لا تزيد شيئًا على مضمون الكتاب. قال: "من كتب الرسالة إلى رومة؟ كلُّكم تقولون: بولس الرسول. ولكنَّنا نقرأ في 16: 23: "أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلِّم عليكم..."

لا شك أن ترتيوس هو الذي خطَّ رسالة بولس إلى أهل رومة التي كان بولس ينصّها عليه. فهذا الأخير كان يستعين بأشخاص لتدوين رسائله، ربما لأن خطّه لم يكن جميلاً أو أن الحروف التي كان يكتبها هي كبيرة (غلاطية 6: 11) بحيث يقتضي استعمال الكثير من الرَقّ (أي الجلد المخصّص للكتابة) الغالي الثمن. ومن المعروف أن بولس كان يوقّع إمضاءه على رسائله بطريقة مميّزة، فيكتب بخط يده السلام الموجّه إلى بعض الأخوة في ختام كل رسالة. وسبب ذلك أنه بعدما كتب الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي سنة 51 ب.م.، قام عدد من الأخوة الكذبة في تلك الكنيسة بنشر إشاعة ربما على شكل رسالة قيل أنها صادرة عن بولس نفسه، تقول بقرب مجيء يوم الدينونة، ما أدّى إلى انتشار الهلع والرعب بين المؤمنين، كما هو الحال عليه عند قراءة بعض نصوص رؤيا يوحنا. لذلك أسرع بولس بكتابة رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي، فنفى تلك الإشاعة نفياً مطلقاً وهدّأ من روع المؤمنين. وقال لهم في نهاية رسالته: "هذا السلام بخطِّ يدي أنا بولس. تلك علامتي في جميع رسائلي، وهذه هي كتابتي" (2 تسالونيكي 3: 17)....

إذاً، رسائل بولس هي صحيحة وصادرة عن الرسول نفسه بالرغم من أنه كان يستعين بكاتب لكي يكتبها بخط جميل على الرَقّ المخصص للكتابة. أما بالنسبة لرؤيا يوحنا فقد كُتبت على أربع مراحل، لأنها كانت في الأصل ثلاثة نصوص مستقلة عن بعضها البعض، دُوِّنت في ثلاث فترات زمنية مختلفة ثم دُمجت مع بعضها البعض في مرحلة لاحقة لتكوّن نصّاً واحداً. وقد حصل هذا الدمج في أواخر القرن الميلادي الأول، على يد شخص اسمه يوحنا.

1- النص الأول: الرسائل إلى الكنائس السبع. هذا النص يشمل الفصول الثلاثة الأولى من كتاب الرؤيا الذي يتألف من 22 فصلاً. يقع الكاتب في حالة انخطاف روحي، فيسمعُ خلفه صوتاً يأمره بكتابة رسائل إلى الكنائس السبع في ولاية آسية. هذه الرسائل هي عبارة عن إرشادات توجيهية وتحذيرية مرتبطة بواقع تاريخي وجغرافي معيّن، فهي تحوي بعض التلميحات التاريخية allusions historiques إذ يشير الكاتب الى وجود أشخاص يزعمون أنهم رسل، وهم، بنظره، ليسوا برسل (رؤ 2:2). يدّعون أنهم يهود وهم ليسوا بيهود (رؤ 2: 9 و 3: 9)، ويشجّعون على الأكل من ذبائح الأصنام (رؤ 2: 15) فيخالفون العقيدة. إنهم، بنظر الكاتب، نيقولاويون، أي أعداءُ الشعب. لذلك حض الكاتب المؤمنين الذين ضُلِّلوا على التوبة والعودة إلى حبّهم الأول.

إذا فسّرنا هذا النصّ على ضوء التاريخ الذي جُمعت به نصوص الرؤيا الثلاثة في كتاب واحد، أي حوالى سنة 95 ميلادية، نقع في خطأ جسيم. فإن كان هذا النصّ مستقلاً في الأصل عن باقي أجزاء الرؤيا كما يقرّ بذلك العديدُ من الباحثين، فهذا يعني أنه كُتب قبل تاريخ جمعه. لذلك يجدر بنا البحث عن السياق التاريخي الصحيح الذي ينتمي اليه النص المذكور، لكي نتمكن من فهم التلميحات التاريخية الواردة فيه.

ومن خلال الأبحاث التي قمت بها، تبيّن لي أن هذا النص كُتب حوالى سنة 63 ب.م. على يد أحد المتهوّدين (Judaïsants). والمتهودون هم من اليهود-النصارى الذين زعموا ان خلاص المسيحيين، سواء كانوا من أصل يهودي أو وثني، لا يتحقق إلاّ بتطبيق الشريعة الموسوية وبخاصة الختان. ظهر هؤلاء على مسرح التاريخ حوالى سنة 55 م. أو قبل ذلك بقليل. كانوا من ألدّ أعداء بولس الرسول، وكانوا يتوجّهون الى الكنائس التي أسّسها بولس أو تلامذته، مُدّعين أنهم يمثّلون كنيسة أورشليم وزاعمين أن بولس ومن يعاونه في نشر البشارة هم من الرسل الكذبة.

وإذا قرأنا رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية والرسالة والثانية إلى أهل كورنتس، نلاحظ أن بولس الرسول يدافع فيهما عن نفسه ضد اتهامات مشابهة لما ورد في الرسائل إلى الكنائس السبع. فهو يدافع عن رسالته وتعليمه (غلاطية 1: 11- 2: 9) ويشير إلى وجود "بشارة أخرى" (غلاطية 1: 6-7) تعلّم أن الخلاص لا يتحقق إلاّ بتطبيق الشريعة الموسوية (غلاطية 2: 12؛ 6: 12)، فيردّ بأن الانسان لا يُبَرُّ لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمانَ بيسوع المسيح. ويتهكّم على هؤلاء "الرسل الأكابر" الذين يتباهون بأنهم عبرانيون إسرائيليون فيؤكد أنه مثلهم عبراني إسرائيلي (2 كورنتس 11: 21-22).

ويُبدي بولس في رسالته الأولى إلى اهل كورنتس، قليلاً من التسامح لناحية الأكل من ذبائح الأصنام، ما جعل أعداؤه يتهمونه بأنه يخالف الشريعة. علماً أن تهمة التشجيع على الأكل من ذبائح الأصنام، ظلّت ترافق بولس حتى في النصوص المنحولة المتأخرة، كما هو حاصل في مقدمة انجيل برنابا.
أما بالنسبة إلى معاداة الشعب، فهي التهمة التي أدّت إلى اعتقال بولس بعد عودته من رحلته الرسولية الثالثة سنة 58 م.، فعندما دخل بولس الى هيكل أورشليم، ورآه أحدُ اليهود القادمين من ولاية آسية، صرخ قائلاً: "النجدة، يا بني إسرائيل. هذا هو الرجلُ الذي يعلِّم الناسَ جميعاً في كل ناحية تعليماً ينالُ به من شعبنا وشريعتنا وهذا المكان" (رسل 21: 27-28).

هذا عن الرسائل إلى الكنائس السبع، أما القسم الباقي من كتاب الرؤيا فيحتوي على رؤيين عن نهاية الأزمنة:

2- الرؤيا الأولى: تبدأ من الفصل الرابع حتى نهاية الفصل التاسع. وفيها يعيش الكاتب حالةً جديدة من الانخطاف الروحي، إذ يشاهد عرشاً في السماء، ويرى بيمين الذي على العرش استوى كتاباً مخطوطاً من الداخل والخارج ومختوماً بسبعة أختام. ثم يعلن ملاك ان الحمل هو الوحيد الذي بإمكانه أن يفتَحَ الكتاب ويَفضَّ أختامَه (رؤ 5: 1-5). ومع فضّ الأختام تبدأ الويلات: سيف وجوع وطاعون ومصائب كثيرة، قبل أن تزلزلَ الأرضُ زلزالَها، و تسودَّ الشمسُ ، ويصيرَ القمرُ مثلَ الدم، وتتساقطَ كواكبُ السماء إلى الأرض وتنقلعَ الجبالُ والجزرُ من مواضعها... (رؤ 6: 12-14).
هذه الرؤيا هي يهودية-نصرانية لأن محورَها هو الحمل الذي يرمز إلى يسوع المسيح. وهي تخلو تماماً من التلميحات التاريخية، بعكس النصّين الآخرين، وهذا التمايز يثبت أنها كانت في الأصل نصاً مستقلاً.

3- الرؤيا الثانية: هذا النص الرؤيوي يبدأ من الفصل العاشر حتى الثاني والعشرين، وهو نصّ يهودي بامتياز. إنه وثيقة إعلان حرب ضد الإمبراطورية الرومانية، ونعني بذلك الحرب اليهودية الأولى ضد الرومان التي اندلعت سنة 66 م. وانتهت بدمار هيكل أورشليم سنة 70 م.

وكان الكاتب يتوقع بنهاية تلك الحرب أن يتم القضاء على الامبراطورية الرومانية وعلى ملوك الأرض كافة، لكنه كان يجهل نتيجة تلك الحرب لأنه لا يشير إلى دمار الهيكل. وباعتقادنا ان هذه الرؤيا كُتبت في مطلع سنة 66 م. قبل اندلاع الحرب اليهودية بقليل.

يفتتح يوحنا هذا النص بمشهد ملاك هابط من السماء، وبيده كتابٌ صغيرٌ مفتوح. يتناولُ يوحنا الكتاب ويبتلِعُه، فيمتلأ جوفه مرارةً ثم يبدأ بالتنبؤ (رؤ 10: 2-11).

يحفل النصّ بالتلميحات التاريخية التي تتمحور حول مدينة روما القائمة على سبع تلال (رؤ 17: 9). والامبراطورية الرومانية التي يصوّرها الكاتب على هيئة وحش له سبعة رؤوس ترمز إلى قياصرة روما السبعة الأوائل. فيقول إن خمسةً منهم قد مضوا، وسادسهم لا يزال حياً، أما السابع فلم يأتِ بعد (رؤ 17: 10). ومن خلال قوله بأن السادس لا يزال حياً، نستنتج أن الكاتب كان يعيش في زمن القيصر السادس، نيرون. ويتوافق هذا الأمر مع رقم الوحش 666 الذي يرمز أيضاً إلى اسم نيرون قيصر مكتوباً باللغة العبرية التي يساوي كلُّ حرفٍ من حروفها الأبجدية عدداً محدّداً (NRON QSR = 50+200+6+50+100+60+200).

كاتب هذا النص متأثر جداً بمخطوطات البحر الميت، فهناك الكثير من الأفكار المتشابهة بين "الرؤيا" وتلك المخطوطات التي اكتُشفت بالقرب من الشاطئ الشمالي الغربي للبحر الميت بين السنوات 1947-1956، وهي تعود إلى جماعة أصولية يهودية تُعرف بطائفة الأسينيين Esséniens.

من المفاهيم المشتركة: اللباس الأبيض للدلالة على القداسة الفائقة ترقباً لزيارة الله الذي سوف يأتي مع جيوش ملائكته للاشتراك بالحرب ضد الرومان وجميع الأمم. فالحرب هي حرب مقدسة، ومشاركة الله بها ضرورية لتحقيق الانتصار. وبما أن الحضور الإلهي يستوجب طهارةً فائقة، وأن ارتكاب أية نجاسة يُبعِدُ الله عن ساحة المعركة، ما يؤدي الى خسارة تلك الحرب. وبما أن العلاقة الجنسية تنجّس الإنسان، وفقاً للنصوص البيبلية، لذلك نلاحظ أن عبيدَ الله المختارين الذين كانوا يرافقون المسيح على جبل صهيون كانوا من القديسين الذكور فقط، فالنص يقول إنهم لم يتنجّسوا بالنساء (رؤ 14: 4)، وهذا عائد إلى أنهم كانوا يشاركون في معركة نهاية الأزمنة ضد الأمبراطورية الرومانية التي كانت تسعى للقضاء عليهم (رؤ 13: 7). ولهذه الفكرة ما يشابهها في مخطوطات البحر الميت، فالأسينيون الذين كانوا يستعدّون لشنّ حرب نهاية الأزمنة ضد الـ "كتيم" (أي الرومان) وحلفائهم، كانوا من الذكور فقط، وكانوا يحافظون باستمرار على طهارة فائقة استعداداً لزيارة الله لهم.

وكان كاتب الرؤيا يأمل أنه بعد الانتصار على الرومان، سوف تظهر أورشليم الجديدة. ولكن هناك في الرؤيا وصفان لأورشليم الجديدة: واحدة سماوية تتوافق مع الفكر المسيحي، وثانية أرضية تتوافق مع مخطوطات البحر الميت، وهي التي سوف يأتيها ملوك الأرض بكنوزهم (رؤ 21: 24؛ 1QM, XII, 13-14).

وفي الختام نقول إن يوحنا، صاحبَ الرؤيا، نجح تماماً بدمج تلك النصوص الثلاثة المستقلة مع بعضها البعض مكوِّناً منها نصّاً واحداً صبغه بصبغة مسيحية، بعدما تلاعب في معاني الرموز إضافةً وحذفاً، فضاع المعنى الأصلي للرموز وسيطر الغموض. وقد نشر يوحنا المذكور رؤياه حوالى سنة 95 ميلادية زاعماً أنه يوحنا الرسول، ووافقه في ذلك تلامذته المتهوّدون مثله. ولا نزال نتلمّس تهوُّدَ كاتب الرؤيا من خلال وصفه لعبيد الله المختارين الذين سينالون الخلاص. فبالرغم من تلميحه بأن الخلاص سيشمل المؤمنين من كل أمة وقبيلة ولسان وليس الشعب اليهودي فقط (رؤ 7: 4-8 و 7: 9)، نجد أن مرافقي المسيح على جبل صهيون هم فقط من قبائل إسرائيل الإثني عشر (رؤ 14: 1-3). وبالرغم من قوله أيضاً بأن سور أورشليم الجديدة يقوم على اثني عشر أساساً على كل منها اسم من أسماء رسل المسيح (رؤ 21: 14)، لكنه يذكر أن أبواب أورشليم تحمل فقط أسماء أسباط بني اسرائيل الإثني عشر (رؤ 21: 12)، بحيث يعسُرُ الدخولُ إلى أورشليم الجديدة إلاّ بعد الانتماء إلى الشعب اليهودي والعمل بالشريعة الموسوية.

في 20/7/2013
د. كميل الخباز

رؤيا يوحنّا "الأبوكريفة" المونسنيور بولس الفغاليّ L'Apocalypse apocryphe de Jean
20/7/2013

حين نتطلَّع إلى أسفار العهد الجديد نكتشف خطَّين كبيرين. المدرسة البولسيَّة من جهة والمدرسة اليوحنّاويَّة من جهة أخرى. أمّا أوَّل كتابات العهد الجديد، فهي الرسائل البولسيَّة. عرفنا مثلاً أنَّ بولس كتب إلى أهل تسالونيكي سنة 51-52 حين كان في كورنتوس. وكيف حدَّدنا ذلك؟ لأنَّ غاليون الذي كان حاكم كورنتوس في تلك السنة هو ابن سنيكا البليغ وأخو سنيكا الفيلسوف معلِّم نيرون. وتوالت الرسائل البولسيَّة: إلى كورنتوس، رومة، غلاطية، فيلبِّي... فالرسائل الكبرى دُوِّنت قبل الأناجيل فتأثَّر لوقا في إنجيله وفي سفر الأعمال بلاهوت بولس وكذلك مرقس، ومتَّى في المرحلة الثانية بعد صدمة التلاميذ مع المرأة الفينيقيَّة التي قال لها يسوع: "إيمانك عظيم، أيَّتها المرأة، فليكن لك ما تريدين" (مت 15: 28). لاهوت élaboré. صياغة رائعة. هو العبقريّ بولس الذي فَرض أن يُكتب العهد الجديد بما فيه الأناجيل في اللغة اليونانيَّة، اللغة العالميَّة في ذلك الوقت، لا اللغة الأراميَّة، وذلك مهما قال المتحمِّسون والضالُّون مثل كمال الصليبي الذي راح إلى الحجاز يبحث عن أصل الأناجيل التي قرأها يوحنّا في لغتها الأصليَّة ولوقا في ترجمتها. أهكذا تكون الأبحاث!!

أمّا المدرسة اليوحنّاويَّة فعرفت ثلاثة مؤلّفات. الأوَّل سفر الرؤيا الذي يذكر اسم يوحنّا أربع مرَّات. 1:1: "أعلنه يسوع... لعبده يوحنّا". وفي 1: 4: "من يوحنّا إلى الكنائس السبع". وفي 1: 9: "أنا يوحنّا أخاكم وشريككم في المحنة". وأخيرًا، في النهاية 22: 8: "أنا يوحنا سمعت ورأيت". من هو يوحنّا؟ لا نعرف. وكلُّ ما قيل نظريَّات. أمّا العنوان الأصليّ فهو: وحي، جليان في السريانيَّة ܓܠܝܢܐ. ما كان مخفيًّا انجلى وكُشف. والكتاب الثاني هو الإنجيل الرابع الذي عنوانه: "في البدء كان الكلمة". وأخيرًا الرسائل الثلاث حيث لا يرد اسم يوحنّا إطلاقًا. الأولى تبدأ: "الذي كان من البدء". والثانية: "من الشيخ". وكذلك الثالثة. وراح الغرب خصوصًا يبحث عن هويَّة كاتب الإنجيل والرسائل والرؤيا.

نتذكَّر أوَّلاً أنَّ عناوين الأناجيل الأربعة هي من التقليد، لا من أصل الكتاب. من كتب الإنجيل الرابع؟ التلميذ الحبيب. ومن هو التلميذ الحبيب؟ لا نعرف اسمه. لأنَّه في النهاية، كلّ واحد منّا هو التلميذ الحبيب ويأخذ مريم إلى بيته. وإن لم يكرِّم مريم إكرامًا خاصًّا لا يكون التلميذ الحبيب إلى قلب يسوع. استفاد هذا الإنجيل من أسفار موسى الخمسة، من شخصيَّة يعقوب إلى إبراهيم إلى موسى، ثمَّ إلى موضوع الحيَّة في البرِّيَّة. ومنُّ السماء والماء من الصخرة. وبما أنَّه كان فهمٌ خاطئ للإنجيل، دُوِّنت خصوصًا الرسالة الأولى لكي توضح الأمور. الضالّ: "لنا شركة معه ونسلك في الظلمة". والحكم: نكون كاذبين. ويعطي الجواب: "إن سلكنا في النور لنا شركة" (1 يو 1: 6-7). استلهمت الرسائل الأسفار الحكميَّة. أمّا سفر الرؤيا، فبالإضافة إلى قراءة جديدة في سفر الخروج، استند إلى الأنبياء. ولهذا لا نعجب أن يكون هذا العدد الكبير من العودة إلى أسفار العهد القديم، بحيث قيل إن أردت أن تعرف أنَّ شخصًا يعرف العهد القديم، فاقرأ معه سفر الرؤيا.

وقبل أن ندخل في سفر الرؤيا، نفهم أوَّلاً أنَّ الكثير من الكتب القديمة لم يُعرَف اسم كاتبها، بل هي ارتبطت بنبيّ أو ملك أو رسول. فهذا لا يعني أنَّه هو كتبها بيده كما نفعل نحن اليوم. فالكتاب هو نتاج الجماعة قبل أن يكون عمل فرد من الأفراد. وأعطيكم مثلاً واحدًا: من كتب الرسالة إلى رومة؟ كلُّكم تقولون: بولس الرسول. ولكنَّنا نقرأ في 16: 23: "أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلِّم عليكم..." نحن لا تهمُّنا لعبة الأسماء لأنَّها لا تزيد شيئًا على مضمون الكتاب. إذا عرفنا، مثلاً، أنَّ لوقا هو من البلدة الفلانيَّة ووُلد سنة كذا... فماذا يفيدني؟ لا شيء. ما نعرفه عنه هو كتابه في جزئين. بحث، تحرَّى لدى شهود عيان فكتب بتوثيق (لو 1: 3). ونضيِّع وقتنا في لعبة الأسماء. الكاتب الأوَّل في نظرنا هو الروح القدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. وما انتظرنا تحقيقه في البداية وجدناه في فصل 22 من سفر الرؤيا: شجرة الحياة في وسط الفردوس. لا لعنة بعد اليوم كما حصل في الفصل الثالث والرابع من سفر التكوين. ونحن نتسلَّم الأسفار المقدَّسة من يد الكنيسة التي هي جسد يسوع المسيح. فالكتب كتبها، كما الأمُّ مع أولادها. تعرف أيَّه الابن الشرعيّ وأيَّه ابن الزنى.

ولفظ "أبوكريف" اتَّخذ معاني عديدة. والحمد لله أنَّ كميل خبَّاز جعله بين مزدوجين. فالمعنى اليونانيّ للفظ هو المخفيّ، المخبَّأ soustrait aux regards، هو لفئة معيَّنة. هكذا حسبه البعض. ولكنَّ هذا اللفظ يعارض العنوان révélation. والفعل: كشف ما كان مخبَّأ. وفي نظرتنا بعد apokalypse nowالرؤيا كتاب مخيف، مرعب. الحمد لله أنَّه صار مفتوحًا لأنَّ في مسيحيَّتنا، "ما من مكتوم (وهذا معنى أبوكريف لا يعلن، ولا خفيّ لا يُعرَف. ما أقول لكم في الظلمة قولوه في النور، وما سمعتموه بآذانكم فنادوا به على السطوح"، مت 10: 17). الحمد لله أنَّ الكتاب المقدَّس بعهديه صار بيد الجميع وهذا ما لم يكن ممكنًا من قبل. والناس يقرأون سفر الرؤيا كما يقرأون أيَّ سفر من أسفار الكتاب. وإذا ترجمنا "أبوكريف" إلى منحول، فهنا يكون الخطأ بالنسبة إلى سفر الرؤيا. فالمنحول يرتبط بالفعل "انتحل" أي أخذ صفة ليست له. مثلاً إنجيل يعقوب التمهيديّ كتاب منحول لأنَّه اعتبر نفسه من أسفار الوحي، وهذا كذب. من يقرِّر أنَّ هذا السفر هو من الكتب المقدَّسة؟ الكنيسة وحدها. هي تعرف أبناءها. وهي لا تحتاج إلى الكثير من العلماء الذين يتلاعبون بالنصوص الموحاة فلا يصلون سوى إلى القشرة وفي النهاية تنقلب عليهم كما حصل للأب بوامار الدومنيكانيّ الذي ترك في النهاية الرهبنة والكهنوت وتخلَّى عن مسيحيَّته وراح يموت لدى أخته في فرنسا.

ونصل إلى سفر الرؤيا الذي كُتب في إطار المدرسة اليوحنّاويَّة، حيث رئيسها هو "التلميذ الذي يشهد" (يو 21: 24). ولا يُقال: يكتب. كيف بدا هذا السفر؟ حوالي سنة 95 في قلب الاضطهاد على الكنيسة في زمن الإمبراطور الرومانيّ دوميسيان (81-96). تساءل المؤمنون: هل هي نهاية الكنيسة؟ وكان تأمُّل يشبه من يقفز في الطول. ماذا يعمل؟ يعود إلى الوراء، ويركض، ومن نقطة الانطلاق يقفز في الخطِّ الذي بدأ فيه. هكذا فعل "كاتب" الرؤيا، عاد إلى الوراء القريب، إلى الستِّينات حيث الاضطهاد كان مريعًا فمات بطرس مصلوبًا ورأسه إلى تحت وبولس قُطع رأسه، هذا عدا الكثيرين الذين رُموا للوحوش... وسألوا: هل فَنيَتْ الكنيسة؟ والجواب: هي حاضرة اليوم، قويَّة ونحن في نهاية القرن الأوَّل. وعاد الكاتب إلى البعيد البعيد، إلى شعب الله الأوَّل الذي كان في مصر على أيَّام الفراعنة. استعاد العهد القديم يقرأه، واستعاد بدايات الكنيسة فوصلت إلى سنة 95-96، ومن هناك تطلَّع إلى الأمام. كيف يكون المستقبل القريب؟ لا أحد يعرف. فالكنيسة تسير في الإيمان لا في العيان (2 كو 5: 7). يدها تمسك بيد الربِّ وتمشي واثقة بأنَّ الذي بدأ فيها الأعمال الصالحة يتمُّها إلى يوم ربِّنا. الكنيسة لا تعرف المستقبل، والربُّ نفسه لا يعرِّفها به وهو من قال: "هذا اليوم وتلك الساعة لا يعرفهما أحد، حتَّى الابن" في حياته البشريَّة (مت 24: 36). فنريد من بعض الباحثين، أو البدع الآتية من أميركا أن تستكشف المستقبل وتقول لنا: متى نهاية العالم. وماذا سيحصل بعد عدد من السنين. ويعلنون أنَّ الرقم 666 هو فلان: نيرون في الماضي، واليوم هتلر، موسوليني... والوحش هو هو.

نبدأ فنقول إنَّ سفر الرؤيا يعيد قراءة الماضي على ضوء الحاضر. وما يُذكَر فيه حصل فعلاً. أمّا ما سوف يحصل، فليس هذا هدف الكاتب الملهم الذي ينطلق برفقة الربِّ مثل إبراهيم. قال له الربّ: "أنا أريك، أنا أدلُّك" (تك 12: 1). وهكذا بالنسبة إلى الكتاب المقدَّس كلِّه. لا نجد تقارير صحافيَّة كُتبت في الحال كما في طريقة الاختزال التي عرفها العالم اليونانيّ مع ديموستين الخطيب الشهير ويوحنّا فم الذهب، والعالم اللاتينيّ مع شيشرون الخطيب وأحد أعضاء مجلس الشيوخ والقدِّيس أوغسطين. لا هذا لم يُوجَد بالنسبة إلى الأسفار المقدَّسة، كما قال ترسمونتان الذي كاد يحطِّم الأناجيل بنظريَّته: دُوِّنت الأناجيل حالاً في الأراميَّة ثمَّ نقلها كلُّ واحد إلى اليونانيَّة كما شاء. ولكن إن كان خطأ في إنجيل متَّى، مثلاً، يُرذل هذا الإنجيل. ولماذا لا يُرذل أيضًا إنجيل مرقس... فالأناجيل مختلفة، إذًا محرَّفة. أعَلى مِثل هؤلاء الباحثين نرتكز؟ ولا حتَّى على إدوار بول دورم الذي ترك رهبنته وكهنوته، إلخ. هو عالم في اللغات، لا بأس، ولكنَّه ليس عالمًا في يسوع المسيح. فالأسفار المقدَّسة تقرِّبنا إلى الله ولا تبعدنا. ومرَّة قال لي أحد الآباء في فرنسا، من كهنة Nancy، واسمه Maurice Autané: كثير من الكهنة يرفضون دراسة الكتاب المقدَّس المعمَّقة لأنَّها تبعد عن الله. وذكروا لي كسافييه تايخيدور اليسوعيّ الذي ترك رهبنته وتزوَّج يهوديَّة ليصل إلى كرسيّ Collège de France، وأندره لامار ونظريَّته في المعظمة والأب توزار الذي انتهت حياته حين شنق نفسه. أسماء وأسماء عرفتها شخصيًّا. قال الرسول: العلم ينفخ أمّا المحبَّة فتبني. وقال أيضًا: إن عرفتُ أنَّ أكل اللحم يشكِّك إخوتي فلن آكل اللحم في حياتي. فكيف أهلك بطعامي ذاك الذي مات المسيح من أجله؟ وأذكر أستاذي الأب هنري كازال الذي قلتُ له: لو كنت يهوديًّا أو ملحدًا أو ارتيابيًّا لما غيَّرتَ شيئًا في تعليمك. ولو لم أعرف مسبقًا أنَّك كاهن، لما كان باستطاعتي أن أكتشف ذلك من خلال تعليمك.

حين يدوِّن كاتب كتابه، لا بدَّ أن يتأثَّر بالعالم المحيط به. أمّا المدرسة اليوحنّاويَّة فقرأت الأسفار المقدَّسة، ولكنَّها ابتعدت عن العالم اليهوديّ، ولاسيَّما بعد القطيعة التي تمَّت في مجمع يمنية، أو يبنة، على الساحل الفلسطينيّ. قالوا: "إن اعترف أحد بأنَّ يسوع هو المسيح، يُخرَج من المجمع" (يو 9: 22). يُطرَد من الجماعة ولن يكون بعدُ يهوديًّا. لهذا نلاحظ الإنجيل الرابع الذي لا يحصر المقاومة على يسوع في الكتبة والفرِّيسيِّين، كما يفعل متَّى مثلاً (ف 23)، بل يعمِّمها على اليهود. ففي هذا الإنجيل يرد لفظ "يهود" قرابة سبعين مرَّة. أمّا لفظة فرِّيسيِّين فترد فقط 23 مرَّة. لهذا يبدو استناد المدرسة اليوحنّاويَّة إلى التقاليد اليهوديَّة ضعيفًا. همُّ المدرسة اليوحنّاويَّة الكلام عن الثالوث الأقدس، عن عيلة الله في السماء: الآب والابن والروح القدس وخصوصًا الكلام عن الروح القدس الذي هو شخص personne، أقنوم، مثل الآب والابن. أمّا الهرطقة الكبرى فكانت رفض تجسُّد الابن. لهذا قالت بداية الإنجيل: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله (الآب)، وكان الكلمة الله (أي مساوٍ لله الآب"، 1: 1). ثمَّ: "الكلمة صار بشرًا" (آ14). أي من لحم ودم. أخذ كلَّ إنسانيَّته من مريم العذراء التي دُعيَت مرَّتين "أمّ يسوع"، كما اعتدنا أن نفعل في عالمنا الشرقيّ. قالت رسالة يوحنّا الثانية: "دخل إلى العالم مُضلُّون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسح آتيًا في جسم بشريّ. هذا هو المضلّ. هذا ضدّ المسيح" (آ7).

عاشت المدرسة اليوحنّاويَّة وسط عالم يعجُّ بالغنوصيَّة أي تلك المعرفة الباطنيَّة التي تعتبر أنَّنا لا نحتاج إلى التقليد ولا إلى ما تعلنه الكنيسة الكبرى من كتب مقدَّسة. لهم كتبهم تجاه ما قدَّمته المدرسة اليوحنّاويَّة. لهذا شدَّد الإنجيل على المعرفة: "الحياة الأبديَّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ والذي أرسلته ابنك الوحيد يسوع المسيح" (يو 17: 3).

ظهرت كتبُ الغنوصيَّة بقوَّة في النصف الأوَّل من القرن العشرين مع ما كُشف في نجع حمّادي، في صعيد مصر، فقالوا: كلُّ ما في الأناجيل هو "غنوصيّ". اندفاع أوَّل ما عتَّم أن خبا. وفي سنة 1947-1956 كُشفت كتابات قمران المرتبطة بالأسيانيِّين هؤلاء الشفّائين كما دعاهم يوسيفس thérapeutes. فاعتبر الدارسون أن يوحنّا المعمدان كان أسيانيًّا وأنَّ الأناجيل راحت في خطِّ قمران. نظريَّات ونظريّات تبرز وتختفي فتملأ الكتب والمجلاَّت ولكنَّها لا تفيد المؤمن. وسواء عرفنا أنَّ سفر الرؤيا موحَّد أو hétéroclite، في العربيَّة خليط، مزيج، كلمة يونانيَّة : مركَّب من عناصر مشتَّتة، مبعثرة، غريبة، كلام قاسٍ على سفر الرؤيا. ماذا عمل الباحثون الذين استند إليهم الكاتب؟ مزَّقوا الكتاب، فتَّتوه، وتركوه ممزَّقًا، مشلَّعًا، فضاع المؤمنون. أذكر مرَّة في لقاء مع Geda Vermès الأستاذ اليهوديّ في أوكسفورد. قلت له: أنتم اليهود تفتِّتون أسفار العهد الجديد، ولكن متى سوف تجمعونها لتكتشفوا ارتباط التوراة بالإنجيل فتصلوا إلى يسوع المسيح الذي كان "منكم بحسب الجسد"؟ (رو 9: 5).

سفر الرؤيا قسمان. واحد يعيش في ارتباط بالعهد القديم أي تحدَّث عن العهد القديم الذي لا يفهمه ولا يستطيع أن يقرأه إلاَّ "الأسد الذي من عشيرة يهوذا ونسل داود" (رؤ 5: 5) أي يسوع المسيح. هذا هو الكتاب الكبير. ويليه الكتاب الصغير، أي الإنجيل الذي يبتلعه المؤمن فيصبح جزءًا من كيانه. مع ف 11 ننتقل إلى العالم الرومانيّ مع موت بطرس وبولس وقيامتهما. ويبدأ الصراع بين التنِّين والسلطتين السياسيَّة والإيديولوجيَّة، من جهة، والكنيسة من جهة ثانية الممثَّلة بالمرأة. فمريم هي المرأة التي ذُكرت مرَّتين في الإنجيل (يو 2: 4؛ ثمَّ 19: 26)، فدلَّت أوَّلاً على أمِّ يسوع: "ولدت ولدًا ذكرًا وهو الذي سيحكم الأمم كلَّها بعصا من حديد، ولكنَّ ولدها اختُطف إلى الله وإلى عرشه" (رؤ 12: 5). هذه المرأة هي الكنيسة التي ستنتصر لا بالسلاح ولا بالعظمة بل بقدرة الحمل. وينتهي كلُّ شيء بتحوُّل الكون إلى سماء جديدة وأرض جديدة، حيث لا يكون موضع للشرّ، بعد أن زال البحر، ولا يكون بكاء ولا دموع ولا موت.

قراءة حرفيَّة تجعلنا نرى الجواد جوادًا، والراكب عليه قائد من القوَّاد الرومان، والزنى زنى كما نعرف اليوم. الزنى في الكتاب المقدَّس هو خيانة، وبالتالي يرمز إلى خيانة المؤمن للربِّ في عبادة الأصنام. لهذا دُعيَت بابل الزانية. وأمّا الذين حفظوا نفوسهم "فما تدنَّسوا بالنساء" ولبثوا أبكارًا (رؤ 14: 4) فهم الذين رفضوا عبادة الأصنام فكانوا كالبكر الذي يُقدَّم للربِّ ذبيحة لا عيب فيها. لا. الكتاب المقدَّس لا يُقرأ قراءة حرفيَّة، بل أبعد من الحرف نصل إلى الروح، وأبعد من الصورة الحسِّيَّة نصل إلى الرمز الذي تشير إليه الصورة لتجعلنا نحسُّ بالخبرة التي عاشها الكاتب الملهم. وما يلفت النظر هو أنَّ اسم رومة لا يمرُّ في سفر الرؤيا، ولا اسم نيرون ولا دوميسيان. تُذكر مثلاً بابل، المدينة العظيمة، سدوم، مصر، "حيث مات ربُّهما مصلوبًا" (رؤ 11: 8). حث يموت شهيد هناك يموت يسوع. فلا نبحث في سفر عن كتاب تاريخيّ. فالكتاب المقدَّس ليس كتاب تاريخ بل هو كتاب في التاريخ. لهذا نستطيع أن نقرأه اليوم وكلَّ يوم لنعرف أنَّ الاضطهاد يرافق الكنيسة، ولكن هذا لا يمنع أنَّها في النهاية تنتصر لأنَّ يدها بيد ربِّها.

بعد هذه النظرة التي استلهمت كتاب الأستاذ كميل خبَّاز، اكتشفنا عنده حبَّ البحث الذي لا يتراجع مهما كانت الصعوبات والعوائق. فكَّك النصوص كما سبقه إلى ذلك الغرب ومنهم لوازي أيضًا الذي ترك الكهنوت. اكتشفنا كاتب التاريخ مع الحواشي التي تدلُّ على إيرينه أسقف ليون وأوسيب القيصريّ وغيرهما. وهكذا فتح الشرق على أمر لم يَعتد عليه. فالكتب الإلهيَّة قلعة حصينة ندور حولها ولا نجسر على الدخول إليها. وأكبر مثال على ذلك البطريرك شنوده في وجه الراهب متَّى المسكين. هو كسل بلا شكّ. وإن حاول أحد أن يشرح الكتاب المقدَّس ويفتح المؤمنين على غناه يُحسب "هرطوقيًّا" أو "بروتستانتيًّا" هذا ما يؤسف له. وإلى هذا يشير الأستاذ كميل حين يصيب معظم الكهنة الذين يجهلون الأمور العديدة في الكتب المقدَّسة. فالأستاذ كميل باحث في التاريخ، لا في شرح الكتاب المقدَّس، كما دعاه الدكتور Roncaglia: exégète.

ولكن ماذا ينتظر المؤمنون عمومًا والكهنة خصوصًا من سفر الرؤيا مثلاً؟ أوَّلاً، يقرأون فحص الضمير في كنائس سبع هي صور عن كنائسنا اليوم، وكلُّ هذا مضمَّخ بالكتاب المقدَّس. ثانيًا، يعرفون أنَّهم ينتصرون وراء "حمل الله الحامل خطايا العالم" (يو 1: 9)، الحمل الذبيح الذي يحمل جراحاته حتَّى نهاية العالم، ولكنَّه في الوقت عينه منتصر بقيامته (رؤ 5: 6). أمّا الأبحاث التاريخيَّة واللغويَّة فلا بأس بها إن ساعدتنا على فهم أفضل للكتاب المقدَّس من أجل التأمُّل والصلاة. وما تبقَّى هو مادَّة جدال بين الباحثين ونحن نرجو الأستاذ كميل مواصلة الجهاد، مع تكرار تهنئتنا وأمنياتنا بأن تصل إلى من هو الطريق الذي يقود إلى الحقِّ والحياة.