Articles

Art in the press

الشرح المختصر - في اصل الموارنة وثباتهم في الأمانة وصيانتهم من كل بدعة وكهانة

مقدمة الكتاب - الشرح المختصر - في اصل الموارنة وثباتهم في الأمانة وصيانتهم من كل بدعة وكهانة - تأليف البطريرك مار اسطفانوس الدويهي - الاباتي بطرس فهد (مقتطف)

البطريرك اسطفان الثاني الدويهي، فريد عصره واعجوبة دهره، اقيم بطريركا ً انطاكيا ً على الموارنة، في 20 أيار سنة 1670، وكان احد اعلام الفكر في عصره فخلد له التاريخ ذكرا ً عاطرا ً ووقف كثيرا ً من صفحاته على ايراد مآتيه الجليلة وتآليفه المتعددة الممتعة التي فيها مجموعتان تاريخيتان لهما مقام خطير في تاريخ لبنان العام وخاصة ً في تاريخ الطائفة المارونية واصلها وثباتها في الايمان الكاثوليكي، عبر التاريخ، على ما حل بها من اضطهادات ومحن وعذابات، طوال اجيال واجيال. احداهما (وهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء) تتضمن في الجزء الاول ايضاح اصل الامة المارونية ونسبتها الى القديس مارون القورشي صاحب الدير المشهور مكانه على نهر العاصي، وبيانه على حد تعبير الدويهي من ثلاثة أبواب: من شهادة الكتب، من تسليمات الكنيسة المارونية ومن شهادة الطائفة اليعقوبية.

والجزء الثاني من هذه المجموعة يتضمن ايضاح ثبات الموارنة في الايمان المستقيم، كقول الدويهي نفسه، ورد اجوبة المؤرخين الذائغين عن محجة الصواب. وبيان ذلك من ثلاثة ابواب ايضا ً: مما حرره اكابر العلماء لايضاح هذه الامور، مما كتبه علماء الموارنة دفاعا ً عما هم فيه، ومن سجلات الاحبار الاعظمين في روما.

وهذان الجزءان محفوظان بين المخطوطات في المكتبة الفاتيكانية تحت رقم 395 من القسم السرياني. وقد نشر الاستاذ رشيد الخوري الشرتوني سنة 1890، في المطبعة الكاثوليكية في بيروت، هذين الجزئين ونتفا من المجموعة الدويهية الثانية التي سيأتي الكلام عليها بعيده، وسمى كل ذلك "تاريخ الطائفة المارونية".

أما الجزء الثالث من هذه المجموعة التاريخية الاولى فيتضمن تبرءة الامة المارونية من كل بدعة، والرد على كل تهمة مما قذفها به اللاهوتيون المرسلون الذين يدعون انهم اطلعوا على مضمون كتابات الموارنة وكتبهم الطقسية. ويبين الدويهي كل ذلك من ثلاثة أبواب أيضا ً: من مضمون القوانين المسلمة عند الشرقيين، من مضمون الكتب البيعية المختصة بالامة المارونية، ومن الكتابات التي ادعى هؤلاء المرسلون أنهم وقفوا عليها وفحصوها واحصوا اغلاطها المزعومة. وهذا الجزء انما هو المخطوط الفاتيكاني المحفوظ تحت رقم 396 من القسم السرياني. وقد نشره بالطبع حضرة الاب فيليب السمراني سنة 1937 في مطابع الكريم بجونيه، ودعاه "كتاب الاحجاج" ناشرا ً اياه عن ثلاثة مخطوطات ما تزال باقية للآن: هي المخطوط الفاتيكاني رقم 396 ومخطوطان آخران محفوظان في المكتبة البطريركية في بكركي ورقمهما43 و44.

وهذه المجموعة الجليلة القدر لاهميتها التاريخية ترجمها الى اللغة اللاتينية، بناء ً على طلب علامتنا الدويهي العظيم، المأسوف على علمه الاب بطرس مبارك الماروني الذي انضوى الى جمعية الآباء اليسوعيين ونبغ فيها. والترجمة هذه محفوظة خطا ً في المكتبة الفاتيكانية أيضا ً تحت رقم7411 من القسم اللاتيني، وهي مكتوبة بلغة لاتينية فصحى على افضل ما يكون، وقد نشرت الجزء الاول منها في هذا الكتاب ليطلع عليه الغربيون ويقوموا ما اعوج من تفكيرهم وكتاباتهم.

اما المجموعة التاريخية الثانية التي وضعها العلامة الدويهي فهي المعروفة عند علماء الطائفة اليوم بتاريخ الازمنة وهي تصنيفان او كتابان : الاول، تصنيف مؤرخ بحسب سني الهجرة وهو يتعلق بالتاريخ المدني، بدؤه من ظهور الاسلام في سنة 622 للميلاد، وانتهاؤه في سنة 1699 للميلاد، ويقال له عند العامة "تاريخ المسلمين، وهذا هو المخطوط الفاتيكاني ذو الرقم ال 215 من القسم السرياني، وقد نشر بعضه المعلم رشيد الخوري الشرتوني سنة 1890 في مضامين التاريخ الطائفي المذكور، ابتداء ً من صفحة 97 لغاية صفحة 262 حيث اضاف الى ذلك: مختصر تاريخ الرهبانية المارونية بكامل فروعها، وبعض زيادات وقف عليها اتماما ً للفائدة، وفصلا ً في اثبات ان البطرك الماروني انما هو البطريرك الانطاكي.

اما الكتاب الثاني من هذه المجموعة فهو تصنيف مؤرخ بحسب السنين المسيحية، ويتضمن تاريخا ً كنسيا ً بدؤه سنة 1095 وانتهاؤه سنة 1699. وهذا هو المخطوط العربي المكتوب بالكرشوني. والمحفوظ في المكتبة الفاتيكانية تحت رقم 683. وقد نشره حضرة العالم الاب فردينند توتل اليسوعي في المطبعة الكاثوليكية في بيروت. سنة 1951، بعد المقارنة بين عدة نسخ من هذا التأليف التاريخي الجليل.

وقد اضطررنا الى وضع هذا الشرح، لأن كثيرين ممن تكلموا على هذه المخطوطات لم يرافقهم الحظ في كل ما كتبوه، بل خلطوا بين التصانيف التي عالجها مؤرخنا المدقق حتى صار من الصعب ادراك الفرق بين هذه المخطوطات المتنوعة التي سبق ذكرها. نورد مثلا ً على ذلك ما قاله حضرة الاب فيليب السمراني في الصفحة الخامسة من مقدمته لكتاب الاحتجاج الذي نشره للعلامة الدويهي. قال:

"من اهم ما وضعه العلامة الدويهي عن الطائفة المارونية ثلاثة كتب وهي تاريخ الازمنة الذي نشره المعلم رشيد الشرتوني، وكتاب المحاماة، وكتاب الاحتجاج. وهذا لا يزالان مخطوطين... ولقد وضعه العلامة الدويهي ليرد به على التهم التي اتهم الموارنة بها اولا ً الاب جوان باتيشطا اليسوعي ومن بعده توما الكرمليطي..."

مما لا ريب فيه ان كل مطلع على حقيقة تآليف الدويهي يستغرب كلام الاب السمراني لأن معناه لا يطابق الواقع اصلا ً. وقد رأينا مما قرأنا ان الكتب التاريخية التي وضعها مؤرخنا العلامة الدويهي ليست منتظمة ً قطعا ً على الطريقة التي ذكرها الاب، السمراني، وليست هي المصنفات التي عددها السمراني وحدها كما لا يخفى. وقد وقع في الغلط نفسه تقريبا ً كل الذين ذكروا تآليف البطريرك الدويهي التاريخية. وهذا ما حدانا الى ذكر هاتين المجموعتين على حدة بالنوع الذي وصفناه، على ان ذكر سائر مؤلفاته في ترجمة حياته.

اما الاسباب التي دفعتنا الى اعادة طبع كتب البطريرك الدويهي التاريخية فهي التالية: اولا ً ان المؤلفات التي نشرها المعلم رشيد الشرتوني قد أعمل بها على حد تعبيره، يد الاصلاح والتبديل، فأصلح عبارتها غالبا ً، وتعرض احيانا ً لتغييرها وتبديلها وفق ما اقتضته القوانين الاعرابية، او اضطرته اليه حاجة اظهار المعنى المقصود كما قال في الصفحة الرابعة من تاريخه. وقد قابلنا المخطوط الذي بين ايدينا بمختلف المواضيع التي طبعها فوجدنا فروقات كثيرة.

ثانيا ً، عثرنا على الترجمة اللاتينية لهذه التواريخ الجليلة التي قام بها العلامة الماروني الآخر الاب بطرس مبارك السالف الذكر وسوف نطبعها بنصها الاصلي مع تاريخ العلامة الدويهي ليقف عليها العلماء الغربيون ويتأكدوا من صحة الاستشهادات التي استند اليها علامتنا الكبير في وضع تواريخه.

ثالثا ً، وهذا خطير في نظرنا، ان علماء وكتابا ً ومؤخين من مختلف البلدان واللغات نسبوا الى مؤرخنا الدويهي ما هو براء منه وما لا يثبت على اساس حقيقي البتة، فزعموا أن ما كتبه اغلبه من نسج الخيال استنبطه من عندياته لينشيء تاريخا ً لطائفته وبطريركية انطاكية لسلفائه. مع ان هذه الاستشهادات التي اشار اليها العلامة الدويهي في تواريخه هذه، بذلنا في التفتيش عنها جهودا ً كبيرة تكللت كلها بالنجاح. فوجدنا هذه التواريخ في المكتبة الفاتيكانية واطلعنا عليها وقد نقلناها بنصها الاصلي لننشرها في اخر هذا الكتاب مع ذكر الكتاب واسمه وتاريخ طبعه ومؤلفه، وذلك ليقف هو بنفسه على هذه العبارات الصحيحة ويتأكد من كلام الدويهي وحرصه على اعلان الحقيقة التاريخية دون ما زيادة او نقصان.

وهاك ايها القاريء ما كتبه المؤرخ الفرنسي اوسابيوس رينودوط. وقد نقل كلامه المطران اقليموس يوسف داود السرياني في كتابه "جامع الحجج الراهنة في ابطال دعاوى الموارنة المطبوع في المانيا سنة 1808، بعد وفاته، ص 49، قال ما ترجمته:

"لا نكترث لاسطفانوس الاهدني بطريرك الموارنة الانطاكي الذي استشهده نيرون (والاصح نمرون) الباني الماروني، ولا لأحد من الموارنة السابقين او الاحياء. فان هؤلاء لو كان حب الوطن لم يخرجهم عن حدود الحق لكانوا معذورين. ولكن لا يستحقون العذر لانهم في الامور المتعلقة بتواريخ الكنيسة المارونية، قصدوا تمويه الحقيقة على القارئين الذين قل من يتصدى منهم لهذه المباحث وحاولوا ان يغشوا جمهور الناس... ان علماء الموارنة لا يدركون الصواب والحقيقة في بحثهم عن احوال اجدادهم لانهم قد ابادوا اكثر كتبهم وصحفهم وآثارهم وذلك لشدة بغضهم لحالهم السابق حال الشقاق الذي كانوا فيه...".

فتجاه مثل هذه المزاعم الباطلة التي تشير الى ما تبطنه صدور قائليها وما تأجج فيها من نيران الحسد طوال سنين حتى نفثوها سما ً زعافا ً فأصابهم هم وحدهم دون غيرهم، اترك الحكم للقارىء اللبيب الذي بعد ان يطلع على العبارات والمصادر التي اتخذ العلامة الدويهي منها استشهاداته، يصدره حكما ً صارما ً بحق المتشدقين والهارفين بما لا يعرفون كما رأينا.

وأخيرا ً بما أن هذا التاريخ الهام قد نفدت طبعته منذ سنين ولم يبق الحصول عليه متيسرا ً في مطالعته والاستناد اليه لنزاهة مصادره وصوابيتها، اقدمنا على نشره على علاته، محافظين على عبارته الاصلية دون ما تغيير او تصحيح، وعلى الاسلوب الذي استعمله المؤلف حرصا ً على قدمية الكتاب، وحبا ً لابرازه للمطالعين مثل ما كان عليه يوم مسح صاحبه اليراع من مداد تحبيره. واما الزيادات والتفسيرات وما اليها فقد وضعناها بين معقوفين او في الحواشي، او في اواخر الكتاب.

ملخص ترجمة حياة المؤلف:

1- البطريرك اسطفان الدويهي: يظلم التاريخ من يؤرخ الرهبانية المارونية بفرعيها الحلبي البلدي اللبنانيين، ولا يكتب كلمة مستفيضة عن علامة دهره وبهجة عصره، المثلث الرحمات البطريرك اسطفان الدويهي الثاني الاهدني، الذي لولا حكمته وبعد نظره، وسعة معارفه، وقداسة سيرته، وعمق تفكيره، لما تمكن الاب عبد الله قراعلي ورفاقه الآباء جبرايل حوا ويوسف البتن وجرمانوس فرحات الحلبيون من تأسيس هذه الرهبانية المارونية، ونشرها في الربوع المشرقية، حتى غدت اساسا ً ومنطلقا ً لكل الرهبانيات الشرقية على اختلاف مذاهبها.

جاء في الصفحة الخامسة من كتاب التذكار المئوي الثاني لتثبيت قانون الرهبنة الحلبية اللبنانية المارونية التي اصدرته سنة 1932، ما يلي: "اما ذلك البطريرك الملفان الواسع الخبرة والعلم، الممتليء من روح الرب روح الحكمة والقداسة، والمتقد غيرة ً على مجد الله وخير الطائفة والكنيسة وخير النفوس، فقد استقبلهم (اي عبد الله قراعلي وجبرايل حوا ويوسف التبن) بما فطر عليه من الدعة، واحتضنهم بعطفه الابوي، ومحبته الصادقة. فازدادت ثقتهم به، وجرأتهم لديه، فعرضوا له ان ما حملهم على المجيء الى لبنان لم يكن الا قصد الابتعاد عن العالم وانشاء رهبانية جديدة يكون لها قانون واحد، ترتبط به جميعها برهبانها واديارها، ويكون لكل دير رئيس. ولجميع اديارها رئيس عام واحد يؤازره أربعة مدبرين، مما لم يكن مألوفا ً في لبنان في ذاك العهد. فالبطريرك الدويهي... اجاب الشبان الاتقياء الى رغبتهم، بعد ان اطلعهم على وعورة المسلك وخطورته ومدحهم لنبالة قصدهم وادرك اهمية ما عزموا عليه، فاستبقاهم عنده... وفي العاشر من شهر تشرين الثاني ألبسهم هو نفسه اسكيم الرهبانية في دير قنوبين كرسيه، على سبيل التجربة... دون ان يبرزوا نذورهم، وانعم عليهم بدير مرت موره، في جوار اهدن مسقط رأسه، وكان خرابا ً فرمموه...".

اذن، لولا هذا البطريرك القديس اسطفانوس العظيم لسعة آفاقه وصدق تقواه، وحزم الاب عبد الله قراعلي ورفاقه الميامين وقوة مراسهم، لظل دير مرت موره كسائر الاديار اللبنانية مستقلا ً عن غيره، ولما كانت فكرة الرهبانية الجديدة المنظمة، وهي الأولى في الشرق، قد برزت بشكلها الحالي المنظم كما سنبين بمقال آخر.

2- اسرة الدويهي: ينتمي البطريرك اسطفان الدويهي الى "الاسرة الدويهية المشهورة بين الموارنة في التقوى والعلم وسياسة الشعب وهي من اقدم الاسر في اهدن، ولها بقية في اهدن الى يومنا هذا، وقد نزح منها افراد الى مجدل معوش في الشوف والى بيروت، والى عكار وغيرها".

وقد ذكر البطريرك الدويهي في هذه الرسالة ثمانية مطارين وبطركين ولدوا من هذه الاسرة: منهم المطران يعقوب الذي اقام في دير مار سركيس راس النهر (1503)، والمطران قرياقس اسقف اهدن (عام 1513)، والمطران سركيس الذي سكن أيضا ً في دير مار سركيس (عام 1515)، والمطران جرجس عميرا الذي صار بطريركا ً سنة 1633، والمطران بولس اسقف اهدن (عام1659)، والمطران جبرايل اسقف صفد عام 1693)، والمطران اسطفان الثاني (عام 1728) الذي صار بطريركا ً، واسطفان الثالث (عام 1810) وغيرهم.

أما الحوادث التي طرأت على هذه الاسرة فقد حفظ ذكر بعضها في مخطوطات هذا البطريرك العظيم منها انه في سنة 1350، رقي الى المطرانية على اهدن، برضا اهلها، الراهب انطون ابن الحاج فرحات الحصروني، لأن امه كانت من العائلة الدويهية، وهو تربى عند اخواله في دير مار يعقوب، وسكن في دير مار سركيس راس النهر، وهو من الاديار القديمة في لبنان، وكان يجيد العربية والتركية. فارسله البطريرك موسى العكاري لتأديه واجب الخضوع للسلطان سليمان الثاني حين قدومه الى مدينة حلب. وقد بنى كنيسة السيدة في دير مار سركيس. ولما تعدى أحد مطارنة الروم على حقوق بطريرك الموارنة وجمع العشور من الموارنة في بلاد عرقا وعكار، أقام عليه المطران انطون الدعوى، وحكم على مطران الروم وأجبر على ترك عشور رعيته في تلك البلاد سبع سنوات الى أن يأخذ مطران الموارنة ما ذهب من حقوقه.

3- ترجمة حياته: يتحدر هذا البطريرك اسطفانوس من الشدياق ميخايل ابن القس موسى، بن يوسف الدقيق، ابن القس موسى، ابن الخوري يعقوب، ابن الحاج ابراهيم الدويهي. والده اذا ً الشدياق مخايل الدويهي، وامه الحاجة مريم الدويهي. وكانت العائلة مؤلفة من الوالدين وولدين ذكرين: الاول، اسطفان، المولود في الثاني من آب سنة 1630، يوم تذكار اسطفانوس رئيس الشمامسة واول الشهداء، فدعي بهذا الاسم تيمنا ً وتبركا ً. والثاني موسى، وهذا تزوج ورزق ثلاثة بنين: الخوري ميخايل، والقس يوسف، والحاج قرياقس.

وكانت ولادة اسطفان في عهد الامير فخر الدين المعني الشهير الذي نشر في الجبل أعلام الامن والاستقرار، وسهل للموارنة الاقامة في بلاد كسروان والمقاطعات الجنوبية، وبناء الاديار والكنائس فيها، حتى كتب الدويهي في تاريخه يقول مفاخرا ً: "وفي دولة فخر الدين ارتفع راس النصارى".

وكان اسطفان ابن ثلاث سنين لما توفي ابوه سنة 1633، فتربى يتيم الاب، تحرسه العناية الالهية. فنشأ عصاميا ً، لا يعتمد الا على ارادة الرب الذي ظلله بجناحيه، وعلى دأبه واجتهاده المتواصل. ومنذ نعومة اظفاره، ارسلته والدته الى مدرسة القرية لاكتساب العلم والادب. وكان التدريس عصرئذ "كما لا يخفى، مقصورا ًعلى اللغة السريانية واصولها واتقان الكتابة بحروفها، وعلى معرفة الديانة وطقس كنيستنا المارونية. فجد اسطفان راغبا ً في الدرس والتحصيل، وظهرت عليه مخايل النجابة.

وفي سنة 1641، اوفده البطريرك جرجس عميره (1633- 1644) الى المدرسة المارونية في روما برفقة القس سمعان التولاي والشماس يوسف فنيان الحصروني وغيرها. وكانت تلك المدرسة التي انشأها الطيب الاثر البابا غريغوريوس الثالث عشر سنة 1584، مزدهرة بالعلم والفضائل، ومشهورة ً في الاوساط الاوربية العلمية بمن انجبت من العلماء الاعلام امثال ابن القلاعي، ونمرون الباني، والحاقلاني، والشدراوي، والغزيري، والصهيوني، ونصر الله شلق، والبطرك جرجس عميره واسطفان الدويهي والسماعنة وغيرهم.

وكان الدويهي منذ بلغ روما ابن احدى عشرة سنة. فعكف على الدرس بكل ما فطر عليه من الحماسة الاهدنية حتى احرز قصب السبق من اقرانه. فقال عنه معاصره وواضع ترجمته البطريرك سمعان عواد انه سبقهم "على شبه النسر الذي يفوق كل الطيور بالطيران، وكان يلالي بين اولاد المدارس كالشمس بين الكواكب". وكان اجتهاده في الدرس مقرونا ً بعبادة حارة زادها العلم رونقا ً، وصار لها العقل أساسا ً وسراجا ً. واردف المطران شبلي في ترجمته يقول عن الدويهي انه "اتقن اللغة اللاتينية واحكم الفصاحة والعلوم المنطقية والرياضية، وكان لين العريكة، رقيق الطباع، وديعا ً، متصفا ً بكل ما يستميل الناس ويجتذب محبة القلوب".

على ان شدة مواظبة الدويهي على الدروس والمطالعة، كما يقول عنه البطريرك سمعان عواد، كفت بصره وعاد لا يستطيع القراءه، فحار في امره، وحزن رئيسه الاب بسكويستوس اليسوعي ورفاقه عليه. "وقد طال عماه كثيرا ً، فاحتمله بصبر وفرح، ولم يشق عليه سوى شيء واحد وهو اضطرره الى الانقطاع عن الدرس والقراءة. لكنه احتال على المرض بانه كان يستدعي بعض رفاقه ويكلفهم أن يتلوا عليه ما ألقي على مسامعهم. وبهذه الطريقة لم يخسر اسطفان شيئا ً من الدروس، ولم تفته قضية مما كانوا يسمعون في المدرسة... وأخيرا ً لما درى أن العلاجات البشرية عادت لا تنجح، نزل الى الكنيسة وخر امام ايقونة العذراء مريم وابتهل اليها بايمان قوي، ونذر لها نذرا ً الزم ذاته به ولم يفض به الى احد طوال حياته. فكان هذا الدواء هو الشافي له تماما ً. فعاد اليه نظره، احسن مما كان قبل المرض، وظل هكذا الى ساعة وفاته". وهكذا تمكن اسطفان الدويهي من انهاء دروسه الفلسفية واللاهوتية بتفوق كبيرجدا ً.

ختم اولا ً الدروس الفلسفية بمحاورة فلسفية سنة 1650، وفقا ً للطريقة المألوفة في الكليا، اعني ان التلميذ يثبت قضية ما، وبعد اثباتها يعترض عليه المعلمون ومن شاء من الحاضرين، وهو يفند اعتراضاتهم. فان نجح وكانت اطروحته سليمة، حاز الاكليل ومأذونية التعليم والا فلا. وعلامتنا اسطفان قام بهذه المحاورة تحت رئاسة الكردنيال كابون، كما اخبرنا، احسن قيام، وهرع كبار العلماء والاساتذة الى سماعها والاصغاء اليه يدافع عنها ببراعته المعهودة، فنال استحسانهم وتصفيق الجماهير.

وبعد الفلسفة تابع الدويهي دراسة الالهيات جاهدا ً مثابرا ً، ولم يمض سوى يسير من السنين حتى أدهش الجميع بذخائر حكمته ومداركه، وكان استاذه اسبارسا الذي تعاطى التدريس في معاهد كثيرة في اوروبا يقول انه لم يتتلمذ له احد نظير اسطفانوس، وكثيرا ً ما كان يفوض اليه اقامة المحاورات في المحافل التي تقام في المدارس. وقد انهى علامتنا هذه الدروس اللاهوتية باطروحة سنة 1654، على اسم البطريرك يوحنا الصفراوي بطريرك الطائفة، مظهرا ً بذلك تعلقه بطائفته ورؤسائها.

ولما انهى دروسه القانونية، كما قال واضع ترجمته المطران بطرس شبلي، طلب منه آباء المجمع المقدس أن يبقى عندهم معلما ً للفلسفة والالهيات، وهي منزلة لم يبلغها شرقي قبله. ولما اعتذر، حاول احد كبار الرومانيين اغراءه بمرتب ضخم ليقوم بتدريس اولاده، نظرا ً لما سمع عنه من الاطراء والثناء، فلم يلتفت اسطفان الى ذلك قط. ولو انه صنع، لفاق السماعنة شهرة ً، وحاز اعتبارا ً لا نقدر نحن على وصفه. على انه مكث في روما يومئذ نحو ستة اشهر يطوف مدارسها ومكاتبها، ويفتش عن كل ما فيه ذكر للموارنة من تصانيف الاقدمين وكتب الحديثين. وكان مثرجما ً، كما يقول المطران شبلي، قد شرع بهذا العمل وهو تلميذ، اذ كان يتردد على المكاتب ايام العطلة بدلا من الذهاب مع الآخرين الى المتنزهات والحدائق وكان في المدرسة آنئذ مجموعة كتب خطية ثمينة وقديمة العهد، اهداها الى المدرسة رؤساء الطائفة السالفون، فكان يعمل فيها بحثا ً ومطالعة وتدقيقا ً، وينسخ منها كل عبارة يجد فيها ذكرا ً للموارنة. وعلى هذه المخطوطات وغيرها كان اعتماد البطريرك اسطفان الدويهي في تسطير تواريخ الطائفة والدفاع عنها ورد التهم الباطلة، ببراهين دامغة ومستندات ثابتة. وهكذا تمكن، رحمه الله رحمات واسعة، من جمع قسم كبير من مواد تواريخه التي نشرها فيما بعد كنزا ً لا يفنى ومنهلا ً لا ينضب.

العودة الى لبنان:

وقبل ان يسافر اسطفان الى لبنان، عينه المجمع المقدس مرسلا رسوليا ً، وخصص له معاشا ً مرموقا ً وقد حصل ذلك بعناية الماروني الهمام ابراهيم الحاقلي الشهير. وكان سفره الى لبنان في الثالث من نيسان سنة 1655، وهو يحمل اسمى الشهادات العلمية مع الثناء المستطاب. وفي وطنه لبنان الحبيب، لم يستنكف اسطفان عن تعليم اولاد بلدته الصغيرة، فأفادهم واستفاد من مراجعة كتب اللغة العربية، فملك ناصيتها بوقت وجيز، واحاط بالالفاظ والمعاني، واستطاع الكتابة فيها والخطابة باسلوب بسيط لذيذ. وكان قبل رجوعه من روما، قد صنف كتابا ً في الفردوس الارضي باللغة اللاتينية، كما جاء في مجلة امشرق وترجمة حياته.

سيامته الكهنوتية: اقتبل اسطفان في روما الدرجات الصغار نعني بها درجة المرتل والقارىء والشدياق والشمامسية. وبعد سنتين من قدومه الى لبنان، اي سنة 1656، في الخامس والعشرين من اذار، يوم البشارة، رقاه البطريرك يوحنا الصفراوي الى درجة القسوسية على مذبح دير مار سركيس راس النهر في اهدن. "وللحال بعد وضع اليد عليه شرع يتاجر بالوزنات، التي سلمه اياها مولاه، غير مدع علما ً، ولا متطلب عالي المراتب والوظائف التي خدعت ابناء هذا العصر خصوصا ً الكهنة حتى اضحى كثير منهم يحسبون خدمة النفوس انحطاطا ً عن منزلتهم، ولا يذكرون ان ابن الله نزل من علو مجده، ولاشى ذاته وظهر بصورة العبد، وقاسى الاهانات والاتعاب طلبا ً للنعجة الضالة، وانه علم تلاميذه ان يكون كبيرهم خادما ً للآخرين، وارسلهم الى العالم لا ليحملوا الاموال، ولا ليدعوا من الناس اربابا ً، بل ليعلموا ويعمدوا ويرشدوا الامم الى سبل الخلاص، وقد اتبع علامتنا الدويهي، منذ البدء منهاج السيد المسيح له المجد، وأخذ يعلم الاولاد في بلدته الصغيرة... وفي غضون ذلك شرع بتأليف كتاب المنائر العشر، الذي تكلم فيه على سر القربان المقدس، وجمع فيه شتات العلوم الكنسية، واظهر به سمو عقله وعمق تقواه".

اعماله الرعوية في حلب:

وفي مدخل صوم 1657، اوفده البطريرك يوحنا الصفراوي مرسلا ً بطريركيا ً الى حلب حيث كان للجالية المارونية مكانه مرموقة. فانصرف اسطفان الى التعليم والتهذيب واقامة الارشاد والرياضات الروحية، وحد كلمة الطوائف المسيحية على ما كان بينها من خلاف، واهتم خاصة باليعاقبة، واعاد منهم كثيرين الى حضن الكنيسة المقدسة. وعمل هو والقس اخيجان رفيقه في المدرسة الرومانية المارونية على تأسيس كنيسة سريانية كاثوليكية، كان زميله اول بطريرك سرياني كاثوليكي عليها.

ومكث الدويهي في حلب ثمانية اشهر فقط، عاد بعدها الى اهدن حيث قطن دير مار يعقوب الذي كان قد استوطنه قديما ً كاهن حبشي اسمه يعقوب. وهذا، بعد ان انكشف امره لأنه كان يعقوبيا ً، طرده اهالي اهدن. فذهب مع رفاقه الى دير مار جرجس حدشيت، وطردوا منه أيضا ً، ولم يبق لهم هناك سوى الاسم اثرا ً لخيبة مساعيهم. وكان الدير خرابا ً، فرممه الخوري اسطفان الدويهي، وأقام فيه نحو خمس سنوات مع الخوري موسى ابن الحاج يوسف، وكان يدرس الاحداث، ويعلم الشعب امور الدين، ويقوم بالخدمة الروحية والوعظ.

وفي سنة 1663، "طلب ابناء حلب الشهباء من البطريرك جرجس السبعلي ان يرسل اليهم كاهنا ً عالما ً يرشدهم الى سبيل الخلاص ويعلمهم كيف يجاوبون المشاقين والاراطقة فيما يختص بحقائق الايمان". فلبى البطريرك طلبهم وارسل اليهم الخوري اسطفان بعد ان رقاه الى درجة البرديوطية التي تخول صاحبها امر زيارة الرعية وتفقد شؤونها. فمكث اسطفان في الشهباء يعلم ويعظ ويثبت ويحرر ست سنوات، كما صرح هو نفسه غير مرة، الى الاب بطرس مبارك السالف الذكر. وفي غضون ذلك اغتنم الدويهي الفرص لجمع المخطوطات الثمينة التي لها علاقة بتاريخ الشرق وملله ونحله، وبالدفاع عن الموارنة ومعتقدهم الروماني السليم. ومشهور أن حلب عهدئذ كانت تعتبر حقا ً في مقدمة المدن الشرقية ثروة وثقافة وعلما ً. وقد وصفه احد معاصريه الحلبيين في احد كتبه، لبلاغة مواعظه، وتدفق كلامه الروحي، بالفيلسوف الروحاني فم الذهب. ولا حاجة الى زيادة شيء على هذا الثناء العاطر الجميل. وهاك كلامه:

"كمل هذا الكتاب، وذلك بأيام رئاسة رأس الرؤساء والابهات، المتوج باعلام الشرف والكرامات، المعلم الفاضل والعالم العامل، الفيلسوف الروحاني فم الذهب الثاني. الراشد لرعيته غاية الارشاد، والمناضل في سبيل الحق والسداد. السريع بالجواب في معرفة الجدال، الوارد لمتمنيه اوراد الرجال الابطال، الهادم منازل افكار الضالين، بواضح المقاييس والبراهين، الذي تعليمه جوهر محيي النفوس، السعيد بالله البطريرك الانطاكي مار اسطفانوس، السالك في آثار الاباء القديسين، المقيم بالدير المعروف بقنوبين. كان سابقا ً كاهنا ً في هذه الكنيسة يكرز وينهى عن الاضرار، للخطأة العذاب المؤبد وجنة الخلد للأبرار. ولم يسمع عندنا قبل كرزه التالي لشروح البيعة السعيدة، الحاوية لمثل هذا الكرز الحافظ للكتب العتيقة والجديدة. فانها شخصها بالآراء المقبولة عند جميع الطوائف وأظهر لهم بينات يأمن فيها الخائف من الخائف، ولوح بتلويحات بها أذرف عيون الخطأة وابكاها، وصرح بتصريحات ادمى بها قلوب العصاة وانكاها... فنسأل السيد المسيح الموصوف بالاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس ان يديم علينا رئاسته، وينعم علينا بفهم معاني ما اورده والعمل بما ذكره العين...".

في ايام اسقفيته: وفي سنة 1668، بعد العيد الكبير، ترك اسطفان حلب الشهباء الى القدس الشريف قاصدا ً زيارة الاماكن المقدسة، هو ووالدته واخوه الحاج موسى واناس آخرون "حيث تباركوا من المواضع المقدسة التي تردد بها المخلص في القدس وبيت لحم والناصرة وغيرهما" كما قال هو في كتابه تاريخ الازمنة. وبعدها عاد الى المدينة طرابلس بالسلامة صاعدا ً الى بلدته اهدن، وكان يرغب في العودة الى حلب. فاحتفل بمقدمه أهله ومواطنوه أروع احتفال.

وبعد صعوده الى اهدن، مثل بين يدي البطريرك جرجس السبعلي في قنوبين كرسيه. فطلب اهالي بلدته من السيد البطريرك ان يرفعه الى درجة الاسقفية مكافأة على اتعابه في سبيل الطائفة والدين، واكراما ً لعلمه الواسع، ومناقبه الحميدة. فأجاب السيد البطريرك ملتمسهم، وسقفه على أبرشية قبرص التي كانت شاغرة من نحو أربع وثلاثين سنة، اي منذ وفاة مطرانها جرجس بن مارون الاهدني سنة 1634. وبدهي ان حالة اساقفة طائفتنا عصرئذ لم تكن كما هي اليوم. لأن البلاد لم تكن بعد قد قسمت الى ابرشيات معروفة بحدودها، ومنفصلة احداها عن الاخرى، ومستقلة كما هي الآن، بل كان الاساقفة يقيمون في احد الاديار المخصصة لاقامتهم، او في الكرسي البطريركي، ما عدا اساقفة قبرص فكانت اقامتهم في أبرشيتهم لغاية آخرالقرن السادس عشر، عندما دخل الاتراك سنة 1571 الجزيرة، وقتلوا حاميتها وجيوشها وذبحوا عددا ً كبيرا ً من المسيحيين. وقيل انه قتل من الموارنة خمسة عشر الفا ً، وفي رواية اخرى ثلاثون الفا ً.

لم يتردد المطران اسطفان، بعد اقتباله درجة كمال الكهنوت وتسقيفه على كرسي الابرشية في نيقوسيه بقبرص، بل أبحر الى الجزيرةرعيته الخصوصية، متكلا ً على العناية الالهية في تدبير شؤونها. "وشرع بتوزيع الاسرار المقدسة، وبتعليم الشعب، وباصلاح ما كان يلزم اصلاحه بغيرة وتجرد واندفاع كبير، ومكث في قبرص الى ىسنة 1670. وهناك بحث كثيرا ً، حسب عادته المشكورة، عن المخطوطات الطقسية والتاريخية المحفوظة فيها، وحمل معه منها الى لبنان قسما ً كبيرا ً لدى مغادرته الجزيرة".

أما الكتب التي لم يتمكن من اقتنائها، فانه نسخ حواشيها والتعاليق المكتوبة عليها والمتعلقة بطائفته، وجبلها معه الى لبنان، ليؤلف منها عند سنوح الفرص كتبا ً تاريخية متعددة كما سنرى، كانت وما زالت عقدا ً جميلا ً في جيد الدين والدنيا. وقد رأى بعض العلماء المتأخرين ان يتثبتوا من دقة العلامة الدويهي التاريخية، فبحثوا في الكتب التي نقل عنها معلوماتها المتنوعة، فوجدوه امينا ً، مدققا ً، شديد الحرص على سلامة النقل والترجمة. فأصبح من هذه الناحية "ابا التاريخ اللبناني الماروني"، كما عرفه بعض العلماء والمؤرخين. وصفه واضع تاريخ لبنان، العالم الاب مرتين اليسوعي بانه "اعلم مؤرخي الطائفة المارونية" ومن احرص العلماء دقة في سرد الاخبار، ونقل المعلومات التاريخية. وظل الدويهي راعيا ً نشيطا ً، غيورا ً، صالحا ً في جزيرة قبرص حتى سنة 1670، كما مر بنا.

في ايام بطريركيته: وفي غياب المطران اسطفان الدويهي في قبرص، يوم سبت الحوار يين وعشية يوم الأحد الجديد سنة 1670، اصطفى الله الى جواره المثلث الرحمات البطريرك جرجس السبعلي في دير مار شليطا مقبس بكسروان، بعد ان اصيب بداء الطاعون الذي كان متفشفيا ً في البلاد، ودفن هناك، في مقبرة الدير، وكان كما ذكر المطران شبلي رجلا ً مهيبا ً شجاعا ً، كريم النفس، عالما ً ماهرا ً في اللغات العربية والسريانية والتركية. وبسبب انتشار الطاعون عهدئذ في لبنان، تأخر اجتماع اساقفة الطائفة واعيانها لانتخاب خلف للبطريرك المتوفى. ثم اجتمعوا واتفقت كلمتهم على تنصيب الدويهي بطريركا ً انطاكيا ً على الطائفة المارونية. فتمنع اولا ً بشدة فألزموه.

وما كاد يتقبل الرسامة في العشرين من ايار سنة 1670، في دير قنوبين، حتى استدعى الشماس يوسف الحصروني، وسامه قسا ً وارسله الى روما ليقدم باسمه الطاعة والخضوع للكرسي الرسولي المقدس ويلتمس من رئيس الاحبار التثبيت ودرع الرئاسة، جريا ً على عادة سلفائه المغبوطين. واخذ يطوف القرى والمدن والدساكر فاحصا ً الكتب الدينية والبيعية، جامعا ً شتات الحواشي المعلقة على الهوامش بحسب عادة النساخ اللبنانيين كما هو مشهور. وبتاريخ الثامن من آب سنة 1672، انعم الحبر الاعظم اقليموس العاشر على البطريرك اسطفان الدويهي ببراءة التثبيت قائلا ً له فيها:

"لتفرح الكنيسة البطريركية الانطاكية بكم، اذ ترى ذاتها بيد رئيس ماهر، ومدبر ساهر، وحايز بركتنا ورضانا ورضى الكرسي الرسولي المقدس" ثم نال الباليوم من قداسته اي درع كمال السلطان الحبري بواسطة معتمدة القس يوسف الحصروني السابق الذكر.

على ان البطريرك الدويهي، بعد ارتقائه الى السدة البطريركية، غادر حالا ً دير قنوبين في الشمال متوجها ً الى قضاء كسروان، "هربا ً من جور الحكام آل حماده المتاولة الذين كانوا في الجبة، ولأجل الوقوف على خاطر ورضا الذين كانوا قد اجهروا بعدم قبوله لهذا المنصب السامي". قدم الى كسروان، وسكن في دير مار شليطا مقبس، في غوسطا، اقدم اديار الموارنة في لبنان، كما اثبت المطران بطرس شبلي في هذه الترجمة التي نحن بصددها. واذ رأى السيد البطريرك عيبا ً في بناء الكنيسة، امر بتجديدها فورا ً لتكون لائقة بجلال الله عز وجل، وببناء منزل بقرب الدير يقيم فيه البطاركة اذا جاؤوا تلك الناحية، حيث يجدون شيئا ً من الراحة والامن مما سلبهما حكام الشمال، في تلك الايام المضطربة السوداء. وهذا المنزل باق للآن، بجانب الكنيسة لجهة الشرق، وهو قاعة كبيرة على عواميد، ولها نوافذ ضيقة الى الخارج، يتبع ذلك السكرستيا والقبو المجاور لجهة الشمال، والغرفة القائمة على سطح القبو. ففي هذا الدير، استدعى السيد البطريرك سنة 1672، الخوري لوقا القرباصي تلميذ المدرسة المارونية الرومانية ورقاه الى الاسقفية على كرسي نيقوسيه بقبرص، حيث استولى احد الحكام الظالمين على املاك هذه الكرسي الاسقفي، وقاسى بنو طائفتنا من جوره وتعسفه ما تنوء تحته الكواهل.

عمل البطريرك الدويهي في خدمة امته وطائفته وتاريخها بكل ثبات واندفاع ومحبة، وواجه برباطة جأش نادرة، الاحداث السياسية والاجتماعية الصعبة، والاضطهادات المتنوعة التي وقعت في ايامه. فقد قضى معظم اوقاته يطوف الجبل، متفقدا ً ابناءه ومعزيا ً ومنجدا ً المشتتين في جميع انحاء لبنان، واعظا ً مرشدا ً، ومكرسا ً الكنائس. وهذه لائحة بالكنائس المتعددة التي كرسها غبطته رحمه الله رحمات واسعة، اطلعت عليها في احد المخطوطات التي ارسلها الى المكتبة الفاتيكانية:

- كنيسة مار يوحنا في دير حراش، تكرست في 16 آب سنة 1671.
- كنيسة مار شليطا في دير مقبس بغوسطا تكرست في سنة 1672.
- كنيسة مار زخيا في قرية عجلتون تكرست... ولم يذكر تاريخ تكريسها.
- كنيسة سيدة الحقلة... مار الياس زوق مصبح، وكنيسة مار الياس حارة البلانة تكرست سنة 1675.
- كنيسة السيدة في عين ورقة تكرست في 21 أيار سنة 1680.
- كنيسة السيدة في غزير ايضا ً تكرست في 23 آذار سنة 1683.
- كنيسة مار أورياقوس في رشميا تكرست في سنة 1683 ايضا ً.
- كنيسة مار جرجس في مجدل معوش تكرست في سنة 1684.
- كنيسة مار يوحنا المعمدان في قرية صليما تكرست ايضا ً في 1864.
- كنيسة الرسل في حريصا تكرست في 18 نيسان سنة 1689.
- كنيسة مار جرجس في قرية سلفايا تكرست في 5 شباط سنة 1690.
- كنيسة مار عبدا في بيت شباب تكرست في اول آذار سنة 1690 أيضا ً.
- كنيسة سيدة زغرتا تكرست في 11 آذارسنة 1693
- كنيسة مار جرجس في عجلتون تكرست في 19 شباط سنة 1696.
- وتكرست في هذه السنة نفسها اربع كنائس اخرى في القرى التالية:
- كنيسة الرسولين بطرس وبولس في زوق مصبح في الثاني من آذار- كنيسة مار الياس في ساحل علما في الثامن من شهر نيسان - كنيسة مار جرجس بدير الرومية في الثالث عشر من ايار - كنيسة مار افرام في مزرعة كفرذبيان في العشرين من شهر ايار.
- كنيسة مار انطونيوس قزحيا تكرست في 23 نيسان سنة 1697. كما تكرست في هذه السنة أيضا ً بتاريخ الرابع والعشرين من نيسان كنيسة مار ميخايل في شاريا.
- كنيسة مار الياس تكرست في غوسطا في 8 أيلول سنة 1698.
- كنيسة مار انطونيوس في دير عين ورقة تكرست في التاريخ نفسه من هذه السنة.
- كنيسة السيدة في مارث موره تكرست في 21 ايار من سنة 1701.
- وكنيسة دير مار سركيس وباخوس في بشراي تكرست في 29 أيار من السنة نفسها 1701.

وقد سام البطريرك الدويهي في خلال بطريركيته أربعة عشر اسقفا ً مفوضا ً اليهم تدبير الابرشنات ومؤازرته في ادارة البطريركية وفقا ً للطريقة السالفة الذكر.

وفي أواخر سنة 1672، رجع الدويهي الى كرسيه بقنوبين، وظل مواصلا ً التنقيبات التاريخية والتآليف المفيدة التي بدأها، فضلا ً عن المهام البطريركية الخطيرة التي كانت تستغرق كل اوقاته، وقد اعتنى بأوقاف الكرسي فوفى الديون وحسن الاراضي، وعمر الادياروالكنائس، وساعد الطوائف الشرقية على اختلافها، وكان يدافع عنها في ابان الاضطهادات، وكانت علاقته بالدروز وطيدة الركائز، وجعل شعبه ورعيته اخوة وملجأ للمضطهدين واحتمل من جزاء ذلك مضايقات متنوعة، واضطر ان يغادر كرسيه بقنوبين اكثر من مرة، متوجها ً الى دير مار شليطا مقبس في كسروان، او الى مجدل المعوش في الشوف. وقد وطد علاقات الموارنة بالكرسي الرسولي المقدس وبالغرب وعلى الاخص بدولة فرنسا صاحبة الحماية الخالدة.

روى واضع سيرة مترجمنا، المطران بطرس شبلي، ما يلي:
"في سنة 1674، في شهر تموز حدث امر نادر المثل في تلك الاعصار الا وهو قدوم سفير ملك فرنسة لويس السابع عشر الى هذه الاديار لزيارة دير قنوبين وبطريرك الطائفة المارونية التي اخذها الملك المذكور تحت حماية دولته بكتابة شهيرة صادرة عام 1649. وكان الملك لويس المشار اليه الذي ملأ اسمه اقطار المسكونة، وطار ذكره الى اقاصي المعمور، لما وقع ذلك الخلاف العظيم بينه وبين الدولة النمساوية، اخذ يعقد المعاهدات ويستميل الممالك الى صوبه ليفرد خصمه ويضعفه ويذلله. وهذه الغاية نبهته الى تجديد المحالفة بين الدولة العثمانية وملوك فرنسه سلفائه، وكلف بهذا الامر رجلا ً يعرف بمركيز دي نوانتل (De Nointel) انفذه معتمدا ً من قبله الى السلطان محمد الرابع، وكان من أدباء عصره مولعا ً بدرس اخلاق الامم وبالبحث عن آثار الاقدمين وخصوصا ً الطوائف المشرقية... فعرج في طريقه على صيدا ثم طرابلس ومن هناك الى دير قنوبين.. فاكرم البطريرك اسطفان ضيافته وبذل ما في وسعه من جهد وخصه بمجالي الترحيب والحفاوة به، جريا ً على شريعة الضيافة المقدسة، واعتبارا ً للملك العظيم، ومحافظة على العلائق التي بين فرنسة والطائفة المارونية من قديم الاجيال...

وتابع المطران شبلي كلامه على هذا المركيز، نقلا ً عن كتاب اسفاره، قال:" أنه لم يكن ليأخذ المركيز نوانتل ملل من مشاهدة الشعب الماروني ونقاوة طويته وسلامتها. وانه لما جلس الى مائدة السيد البطريرك ونظر حوله كهنة الكرسي الافاضل، تخيل له انه بين الرسل في علية صهيون. وتذكارا ً لزيارة قنوبين، أمر احد المصورين الذي كان يصحبه بأن يرسم على صحيفة احد شلالات نهر قديشا تحت الدير المذكور. ثم من قنوبين، صعد لزيارة الارز برفقة السيد البطريرك، وتبعهما جمهور الاكليروس والشعب..."

وفي سنة 1675، تجددت حوادث الاضطرابات في جبة الشمال، بسبب جور الحكام الحماديين كما اشرنا قبلا ً الى ذلك، فاضطر البطريرك الدويهي الى الانتقال، للمرة الرابعة في حبريته، من كرسيه قنوبين الى كسروان لدير مار شليطا مقبس السالف الذكر، وذلك في وسط الشتاء، ابان المرافع، حيث اجرى غبطته بعض الرسامات المذكورة في ترجمة حياته.

وتابع عمل البحث والتنقيب والتصنيف والارشاد. على انه، هذه المرة، لم يلبث طويلا ً في كسروان، لاكتشافه فقدان الانسجام والاتفاق بين مشايخ تلك الناحية.

فتوجه في اليوم التاسع والعشرين من آب لتلك السنة نحو الامير أحمد المعني حاكم الشوف الذي كان في قصبة دير القمر عاصمة الحكام المعنيين صيفا ً، فاستقبل بكل حفاوة وترحيب. واستأجر من الامير قرية مجدل المعوش، وجد كنيسة السيدة فيها، وشاد مسكنا ً بجوارها له ولمن تبعه، وشمل نظره أبناء الطائفة المشتتين في تلك الجهات، وهم في حالة الذل والفقر، فعززهم وعلمهم بأمثاله الصبر والجد وكل الفضائل البشرية المقرونة بخوف الله.

وبعد ان قضى الدويهي ثلاث سنين في الشوف، قدم اناس من الجبة، ومعهم كتابات من آل حماده الى الامير المعني يقدمون بها للسيد البطريرك الخضوع التام والاعتذار، ويعدونه بالقسم أنهم لن يعودوا يخلفون معه بشروطهم. فسامحهم السيد البطريرك ورجع واياهم الى الشمال، وكان ذلك في اواسط عام 1685، كما يتضح من سيرة حياته.

بيد ان الحكام الحماديين لم يحافظوا طويلا ً على عهودهم التي قطعوها على نفوسهم امام الامير المعني، بحفظ الشروط والامن وترك النصارى وشأنهم، بل حنثوا بالدعوة ونكثوا بالعهود، وعادوا الى اثارة الاضطراب، واحداث الجور والاضطهاد. فاضطر الدويهي الى الفرار، مرة أخرى، الى كسروان سنة 1695، كما يتضح حسب تعبير المطران بطرس شبلي، من اشارة الى ذلك وجدت في دفتر حسابات الكرسي حيث يرقم عشور مزارع كسروان وقبرص على يد المطران بطرس مخلوف الذي كان رفيقه، وفي الكتابات المخصصة بملك فرنسا لويس الرابع عشر.

في اواخر حياته:

وقد قاسى هذا اليطريرك القديس في حياته، من حكام البلاد في الشمال شدائد واهانات متنوعة كثيرة، احتملها بصبر جميل، وعالجها بحكمة ودراية، حتى ان معاصره البطرك سمعان عواد اشار الى ذلك قال: "اما الشدائد والنكبات التي اصابته في حياته فلا يحيط بها الوصف حتى يصح القول من غير مبالغة أنه لم بذق طعم الراحة يوما ً واحدا ً من حياته. فقد جرت في أيامه حروب كثيرة ومظالم متعددة من جانب بعض الاعيان، وقلقت البلاد واضطربت مما كان يحدث فيها وقتا ً بعد آخر من قبل المتاولة او من قبل الاعيان او فيما بين الكسروانيين، واحيانا ً فيما بين امراء الدروز. ولهذا كان يعاني انواع الاضطهاد، وكثيرا ً ما هرب من بلاد الى اخرى، واختفى في المغاور والوديان حتى في ايام شيخوخته. كثيرا ً ما كان يلبث اليومين والثلاثة من غير اكل وشرب، وتعقيه المضطهدون مرة ً فاختبأ في مغارة في قرية الحدث في جبة بشراي، وادركه الخوف من الاعداء فانحدر مع كاتبه نصف الليل في زمهرير الشتاء الى دير قنوبين، وفي طريقه على كنيسة السيدة تعرف بدير سيدة الكرم فوقف وصلى ثم عبر النهر متوجها ً الى الدير. فلما وصل الى ما فوق الطاحون، عجز عن المشي ووقع على قارعة الطريق، وكانت الليلة باردة والقمر مضيئا ً. فنصحه كاتبه أن يبرح ذلك المحل خوفا ً من ان يبصر به الاعداء، فأطاعه وجلس في ظل الجبل وكان متوكئا ً على عصاه وجسمه يرتعش من البرد...

"وقد ذكر لنا كاتبه الخوري الياس شمعون انه توجع من اجله كثيرا ً، وظنه انه يموت بلا شك لعجزه وشيخوخته، وما مضى نصف ساعة منوقوفه حتى قدم المكارون الذين كان ينتظرهم، فحملوه الى دير سيدة حوقه. فما بلغه الا بعد شق النفس وكان اذ ذاك في سن السبعين من عمره وكان الليل باردا ً جدا ً..."

ان مترجمنا الوقور قضى حياته في الجهاد المتواصل واحتمال النكبات بصبر عجيب. وهاك ما قاله عنه البطريرك سمعان عواد: في مطلع سنة 1704، حضر المشايخ الحمادية المتاولة، حكام جبة بشراي، عند هذا البطريرك القديس في كرسيه، بقنوبين، يطلبون منه مبلغا ً من المال. واذ ابى ان يلبي طلبهم الجائر، اوسعه كبيرهم عيسى حماده اهانة... فكتب هذا البطريرك الى الشيخ حصن الخازن بكسروان يخبره بكل ما جرى. فغضب الشيخ الخازني، وجهز للحال عسكرا ً من اهل كسروان بعث بهم الى جبة بشراي... واذ علم الشيخ الحمادي بذلك، جاء بنفسه لعند البطريرك الدويهي ووقع قدامه على الارض بحضرة الجميع، وطلب منه السماح قائلا ً: اولستم انتم تقولون في صلاتكم: اغفر لنا كما نحن نغفر لمن اخطأ الينا؟ وانا قد اخطأت اليك فاغفر لي. فسامحه السيد البطريرك بروح مسيحي مقدس. واذ اراد المشايخ الخوازنة الحاضرون ان يبطشوا به، نهاهم البطرك عن ذلك..." فتأملوا عظم تواضعه وعميق تسامحه!

بعض مناقبه ومزاياه:

من بديع مزايا مترجمنا العظيم انه ما كان يجبن ولا يحزن عند نزول المصائب وتوالي النكبات، بل يقول ان اوجاع هذا العالم لم توازي المجد الذي سيظهر فينا. يقول عنه معاصره البطريرك سمعان عواد انه كان حليما ً، وديعا ً، محبا ً للجميع، صبورا ً على المصائب، انما لم يتساهل قط بحقوق طائفته وكرسيه الانطاكي، ولم يدع احدا ً يمد يدا ً اليهما، بل انه كان يدافع عنهما تجاه الاجانب، وكان يجهد نفسه في تنطيم الطقوس، وتهذيب الكتب، وتأسيس الرهبانيات، وكتابة التواريخ، وتثقيف الكهنة، وفي الوعظ والارشاد والقاء الرياضات الروحية المفيدة...

وقال البطريرك سمعان المذكور: "ومن مزاياه انه كان حريصا ً على حفظ طقوس كنيسة الله انطاكية وتقاليدها المتخذة من عهد الرسل. وقد قاسى بذلك اتعابا ً شديدة من قبل بعض االمرسلين اللاتين الموجودين في المشرق. لأنهم كانوا يعلمون على خرق العوائد القديمة، وتبديل الطقوس الشرقية بالطقوس الغربية. اما الكهنة النشيطون الذين كانوا يرعون قطيعهم على مثال الراعي الصالح فكان يكرمهم أشد التكريم، واذا توفي احدهم يحضر جنازة ريقيم لأجله الصلوات، بخلاف الكهنة المتوانين... وهذا ما دفع واضع ترجمته المطران شبلي الى كتابة ما يلي عنه قال:

"فكان في وقت واحد جنديا ً مناضلا ً، وقائدا ً حكيما ً، ورئيسا هماما ً، وكاتبا ً مدققا ً، وناكسا ً عفيفا ً. فمن اي جهة نظرنا اليه، ألفيناه عظيما ً، ومهما اردنا وصف مناقبه، ادركنا عجزنا من ايفائها حقها"."

اما عدله في احكامه، وشفقته على رعيته، فحدث عنهما ما شئت، يقول معاصره. ولذا كانوا يفدون اليه من كل جهة يعرضون له شؤونهم، ولم يكن يعاملهم كالراعي الصالح فقط، بل كالأم الرؤوف أيضا ً. فيعين المحتاجين، ويهدي الضالين، ويقضي بالقسط للمساكين، ويدافع عن المظلومين، ولم يكن يستخف بأحد على الاطلاق. وقد بلغ من اتضاعه انه اذا جاءه احد الفلاحين، لاقاه الى الباب واجلسه على كرسي وسقاه الخمر بيده واسرع في قضاء حاجته...".

فبعد كل ما رأينا من جلائل الافعال التي أتاها مترجمنا المغبوط، علينا ان تختم هذا الفصل بما قاله مترجم حياته من انه كان يحب طائفته حبا ً يفوق كل حد حتى انه ما كان يبالي بحياته لأجلها، وكان مستعدا ً في كل وقت ان يقدم عنقه للسيف اذا اقتضت ذلك مصلحتها وخيرها.

وبعد حياة كهذه كلها جهاد وكفاح واستشهاد، اصطفى الله الى جواره البطريرك العظيم اسطفان الدويهي، في اليوم الثالث من ايار سنة 1704، وهو في الرابعة والسبعين من عمره، وفي الرابعة والثلاثين من بطريركيته. فأقيم له مأتم حافل، ودفن في قنوبين، في مقبرة القديسة مارينا حيث مدفن البطاركة المغبوطين.

مؤلفات الدويهي:

من القى نظرة عابرة على مصنفات العلامة الدويهي الوافرة العدد، الرفيعة القدر، العميقة الغور، يأخذه العجب العجاب من هذا العقل الثاقب المنتج، والفكر الناهض الخصيب، فيزداد تقديرا ً لصاحبها، وثناء على ثقافة واضعها الواسعة، ونهضته الادبية، ونشاطاته التعليمية والاهوتية واليتورجية. فالبطريرك اسطفان انصرف طوال حياته، فضلا ً عن الاعمال الرسولية والرعوية، الى التنقيب والتعليم والتأليف، فأغنى المكتبة العربية بمؤلفاته المتنوعة الممتعة حتى عد بصواب من اعلم بطاركتنا المبرزين، واشهر مؤرخينا المعروفين، وقد استحق لتواريخه الجليلة ان يدعى ابا التاريخ الماروني واللبناني معا ً.

والآن، بعد ان عددنا في مطلع تمهيدنا المصنفات التاريخية التي وضع، نتابع هنا تعداد مؤلفاته الكثيرة الاخرى، وفقا ً لما جاء في ترجمة حياته، وقد سبق ان ذكرناه في مقالنا المسهب الذي نشرناه لمناسبة يوبيله المئوي عام 1970.

من تصانيفه التاريخية أولا ً سلسلة البطاركة الموارنة التي سرد فيها اسماءهم ابتداء ً من البطريرك الانطاكي الماروني الاول يوحنا مارون خليفة تاوافان الشهيد مع لمحة مختصرة لحياتهم واعمالهم وتطورات نشاطهم.

ثانيا ً كتب علامتنا الكبير تاريخ المدرسة المارونية في روما التي اسسها البابا غريغوريوس الثالث عشر سنة 1584، ومختصر تراجم الأولى درسوا هناك من سنة 1639 لغاية سنة 1685. فقد ورد في رسالته المعروفة الى الاب بطرس مبارك السابق الذكر ما نصه: "وعمال ننقب عن سبب مدرسة الموارنة برومية وعن نفعها ونشوء تلاميذها". وقد اثبت ذلك السعيد الذكر البطريرك بولس مسعد قائلا ً: وله كتاب في السبب الذي من اجله تأسست المدرسة المارونية في رومية، وعن الغاية التي نجمت عنها وعن نمو تلاميذها". الا ان يد الضياع سطت على الكتاب فاغتالت اكثره، ولم يصل الينا منه الا صفحات قليلة نشر معظمها المطران شبلي في آخر ترجمة الدويهي.

ثالثا ً، ولعلامتنا ايضا ً كتابان في الوعظ كما روى البطريك سمعان عواد في ترجمة الدويهي هذا، القى مواعظه في حلب الشهباء، ثم جمعها لفائدة ابناء رعيته. قال الاب توتل اليسوعي:

"ويتحدث الحلبيون الى يومنا هذا عن اقبال المسيحيين في ذلك العهد لسماع عظاته، فتضيق بهم الكنيسة، فينقل المنبر من مكانه الى جانب الباب، ومنه يبلغ الصوت الى الجماعة الواقفين في الفسحة الخارجية، وبينهم الكاثوليكي وغير الكاثوليكي".

رابعا ً، اما الكتب الطقسية وما اليها فهي متعددة وقد اعارها الدويهي اهتماما ً كبيرا ً، وكان هدفه من ذلك اصلاح طقوس كنيسته الانطاكية المارونية وتهذيبها وجعلها ملائمة لروح العصر، شريطة ان لا يحيد بشيء عما تسلمه من الرسل الاطهار، ابواق الروح القدس، حسب تعبيره، اباؤنا ومعلمونا الذين سلفوا بكل طهارة وحكمة على هذا الكرسي الانطاكي المعظم. واليك اسماء هذه الكتب الطقسية البيعية:
- منارة الاقداس، جزءان، نشرها المعلم رشيد الشرتوني في بيروت سنة 1895.
- كتاب الشرطونية او سيامة اصحاب الدرجات الكهنوتية والرهبانية، وتكريس الامكنة والاواني المقدسة.
- كتاب القداس والنوافير وسيرة أصحابهم.
- كتاب الجنازات.
- كتاب شرح الشرطونية والتكريسات.
- كتاب الالحان السريانية.
- اطروحة فلسفية.
- اطروحة لاهوتية.
- مجموعة مواعظ.
- سير بعض القديسين.
- شهادة بوجود السيد المسيح في القربان المقدس
- كتاب الفردوس الارضي باللاتينية.
- رتبة قص الشعر وتلبيس الراهب.
- كتاب توزيع الاسرار.
- كتاب مجموع رسائل البطاركة وارباب الدولة.

في الكرامات التي اجراها الله على يده:

خصص الخوري ميخايل غبريل الشبابي في تاريخه المذكور فصلا ً للكلام على الكرامات التي اجراها الله على يد البطريرك القديس اسطفان الدويهي في حياته وبعد مماته، نشير اليها اشارة عابرة ً، محيلين القاريء اليها في مكانها للوقوف عليها وهي مما دونته ايدي الكتبة الثقاة وابقته الايام كما يقول المؤلف الجليل.

روى في صفحة 532، انه لما كان البطريرك اسطفان رحمه الله رحمات واسعة، في مجدل المعوش جاء لزيارته والتماس بركته بعض القوم، فقدموا له هدية، وكان احد رفقائهم يريد الحضور معهم للفوز ببركته. فلما حضروا الى زيارته، كان غائبا ً، فاغتاظ من ذلك جدا ً. غير انه اخذ كيلا ً من القمح وجاء بمفرده وكان هذا الرجل فقيرا ً. فقبله السيد البطريرك بكل حنو واشفاق. فلما عاد الرجل الى بيته رأى وعاء قمحه مملوءا ً قمحا ً، فأخذه العجب من هذا، وذهب فأخبر مولاه وكان رجلا ً درزيا ً. فاخبر هذا أمير الدروز. فقال له الامير: لا تتعجب يا ابني، فان البطريرك اسطفان قد صنع آيات كثيرة تفوق هذه الآية.

ومرة ذهب الى قرية ايطو في اطراف الجبة الشمال ليصلح بين حكام البلاد، فلما أبوا ذلك رماهم بالحرم، وكان ذلك تحت شجرة تين، فيبست التينة للحال وقد تناثرت اوراقها.

ومرة أخرى كان في زيارة الرعية في بكفيا يقدس، فاتفق ان رجلا ً كان له ولد أشرف على الموت، فأتى واخذ ترابا ً من بين رجلي هذا البطريرك الوقور وذوبه في الماء وسقاه لابنه، فللحال قام من سرير اوجاعه. وفيما بعد صير اسقفا ً وهو باق الى اليوم يعرف بالمطران فيلبوس الجميل.

وقد عدد الخوري ميخايل الشبابي كثيرا ً من هذه الكرامات، وقال انها كتبت باللاتينية في المدرسة المارونية في روما، وان الاب ميخايل القرطبي تلميذ المدرسة المذكورة ارسلها اليها في العشرين من آب سنة 1705 مؤكدا ً انه رواها عن الذين حدثت معهم.

سأل علامتنا مرة أحد اصدقائه هل كتب شيئا ً مما صنفه حبا ً للاشتهار او تظاهرا ً بالعلم؟. فأجابه انه لم يكتب الا ما يراه الحق والصدق بدون غرض شخصي البتة. وبالواقع لو راجعنا مؤلفات الدويهي لوجدنا حقيقة قول الصدق، والنزاهة، وعفة اللسان مائلة ً فيها بكل وضوح، فهو من المؤرخين الاوائل المبرزين الصادقين المشهورين الأولى يرجع اليهم في كل المسائل التاريخية والطقسية في الشرق، ولا سيما في تاريخ الموارنة وجهادهم عبر الاجيال، وهذا كاف الآن عن هذا الموضوع الهام.

وقبل الشروع بنشر المخطوط الدويهي، نرى لزاما ً علينا ان نشير لماما ً الى ما كان عليها العلامة الماروني الخوري بطرس مبارك الذي ترجم بعض مؤلفات البطريرك العظيم اسطفان الدويهي:

ولد بطرس مبارك هذا في غوسطا بكسروان، سنة 1660 تقريبا ً، وتخرج في المدرسة المارونية في روما حيث اتقن سبع لغات هي: العربية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية والايطالية والفرنسية، وكان له مقام مرموق بين العلماء بنى مدرسة عين طوره في كسروان، ثم التحق بجمعية الآباء اليسوعيين سنة 1734. ولما رجع الى الشرق عام 1685 سامه البطريرك اسطفان الدويهي كاهنا ً واعطاه عدة كتب عن الموارنة ومنها كتبه التي ألفها عن هذه الطائفة وسلسلة بطاركتها ورد التهم عنها ليترجمها الى اللاتينية فيطلع عليها الغربيون ويصلحوا الاخطاء الكثيرة التي سقطوا فيها.

فقام العلامة الاب مبارك بهذا العمل الجبار خير قيام وترجم الكتاب الاول ثم الثاني من مجموعة الدويهي التي نحن في صددها، والترجمة محفوظة في المكتبة الفاتيكانية تحت رقم 1411 من القسم اللاتيني. كما ان الاب مبارك ترجم من السريانية الى اللاتينية مجلدين من مصنفات القديس افرام السرياني وبدأ بترجمة المجلد الثالث، ولكنه توفي سنة 1742 قبل ان يكمله، فتابع العمل فيه المطران اسطفان عواد السمعاني الذي نشر ترجمة حياته باللغة اللاتينية في كتاب فهرست الكتب الماديتشية في مدينة فلورنسا الايطالية.

وقد امتدحه مجمعنا اللبناني المشهور قال: "اننا نثني خيرا ً على تلك النية التقوية الجديرة بالرجل المتورع ولدنا الحبيب الاب بطرس مبارك، احد الرهبان اليسوعيين المباركين، واحد تلامذة مدرستنا المارونية الرومانية، ومن كهنة طائفتنا، وهو الذي مع ما احرزه عند الجمهور من الشهرة علما ً وتقىً، لم ينس شعبه ولا بيت ابيه فانه نظر في خير ابناء ملته. فبنى لهم في عهدنا مدرسة (في لبنان) بقرية عينطوره من اعمال كسروان، واجرى عليها الرزق ووكل بقرية عينطورة من اعمال كسروان، واجرى عليها الرزق ووكل تدبيرها الى المرسلين اليسوعيين معلقا ً على ذلك بعض شروط خيفة أن يلم بطائفتنا المارونية شيء من الضرر في الاستقبال.

"وان هذا التأسيس بالشروط المضاف اليه جرا ً لخير ابناء طائفتنا قد تقبله حضرة الاب افرنسيس رتز رئيس الرهبانية اليسوعية العام الجزيل الاحترام وذيله اواثبته في صك شرعي مؤرخ في 27 من شباط سنة 1734.

"فنحن اذا ً فيما اننا نقبل ونقابل بمزيد الشكر هذا التأسيس المنشأ في بلادنا ولخير ابناء طائفتنا، ونثبت ما اقره واعلنه الاب الرئيس العام الموما اليه الوفير الاحترام، نريد ان ترعى كل الرعاية شروط متعلقات تفويض ادارة هذه المدرسة الى الآباء اليسوعيين، وتعيين عدد تلامذة الموارنة فيها، بحيث يجب ان يساوي ثلاثة الرباع الطلبة على القليل. ثم نأمر بأن يجري هولاء التلامذة في المدرسة المذكورة على طقس كنيستنا بكل احكامه من حيث الاصوام والاعياد".

وهاك نص المخطوط الدويهي يليه الترجمة اللاتينية: ... ...