Articles

Art in the press

جورج أبو أنطون بقلم الدكتور جورج شبلي

تتعاقب سلالات الأساطير لا لتكوّن فقط درجات الخلائق والناس، فمن القضايا الهامة التي أقلقتها أيضاً إنتاجُ إبداع يُنزلها الى الجحيم تارةً، ويُصعدها تارةً أخرى سقف السماء. إنّ طوفان الإبداع، ومن دون الوقوف على العِلل والأسباب، ما كان يوماً إلاّ مع أدب الشّعب. هذا الأدب الذي روت ملاحمه تفسيراً لفصول الخلود، فكان جديراً بأن يُصَنَّف واحداً من بين الكتب المقدّسة.

جورج أبو أنطون الوافد الى وضاءة النجوم في ديوانه "زهر الخريف"، كان من حسن طالعه أن استدعته هياكل الزجل ليضع فوق كَبد مذابحها التّقادم والهدايا، فكان من الكهّان الأقلّين الذين استطاعوا أن يكوّنوا لهم أسماء أحاطت بها ظروف الافتخار. وهو آمن بأنّ الآلهة تخاطب الناس بواسطة الشعر، ولعلّها أيضاً كانت تفضح به إرادتها فظنّه البعض واحداً من طقوس العرافة. ومهما يكن، فالشعر مع أبو انطون ينبوع نذائر، ما اكتفى الرجل بالكتابة على صفحة جداوله، بل راح يلمس حقيقةً ما أنبأه به.    

الزجل لم يكن يوماً فاسد الهواء، وإن عاشت أرواحه أحياناً حياة بطيئة ما لبث أن قُدِّم لها نبضات إنعاش لم تأذن بأن تُسلَب منها. وجورج ابو أنطون، نقيب شعراء الزجل، نبضة أعادت الى الزجل نفَسه الجَهير، وكأنه استذكره لمّا وُصِف به السّحاب إذا كان فيه الرعد. وزمن الزجل في تعاقبه، لم يتعاطف في السكوت عن كبار بنوا بنبوغهم أكثر من قصر وأكبر من عرش، فوطّنهم في مملكته ليرتقي بهم عهده، وليس غريباً أن يكون استيطان أبو أنطون قد تمّ في ذلك العهد.

الزجل مع أبو أنطون ليس شكلاً مكبَّلاً من أشكال النظم بالمفهوم التقليدي للشعر، من هنا لم يكن أبو أنطون قوّالاً يقطّع الأوزان ويَلزم القوافي في صناعةٍ لمنظوماته. وهو ما اختار الطريق المختصرة حتى يكون زجله علامة يمكن حصرها في تعريف، إنه صورة جوهرها حريّة لأنها تميل الى استكمال ذاتها بأشكال من المعرفة لا نزال نجهلها. وعندما تتجابه الأفكار في شعره، تتجاذب أو تتنافر وتسعى الى أن يحيا بعضها ببعضها الآخر، عندئذ يبرز الإختبار الحقيقي باستحضار الصّور، بما فيها من دينامية، من الإبتكار موطنها الواحد.

لقد فات البعض ممّن عملوا في نقد الشّعر، القرابة بين الصورة والفكر المنطقي. ولمّا كان القصد من تركيب الصورة وضعَ ما هو غائب حاضراً، يمكن عندها اعتبار أنه في آلية الإبتكار هنالك عمل ذكائيّ بالذات وليس توهّماً، فجورج ابو أنطون لم يقذف الذّهن في مجال ليس ممكناً. لذا، لا يمكن في الحكم على نشاطه الذّهني، أن نرى في ابتكاراته الشعرية أيّة عفوية تلقائية بل حركة انبثاق من الإدراك. إنه سلوك تكييف الصورة مع الواقع أو بالعكس، فالصورة معه من لحم ودم، أو هي العنصر الفاعل في إحداث الدهشة والصدى، وليست شكلاً ملتبساً يتغيّر اتجاهها، فهي تارةً  ظلّ وخلفيّة وتارةً أخرى إبداع. 

الجديد مع النقيب جورج أبو أنطون ليس قديماً مُجدَّداً، فهو لم يتناول الصّور المخزونة ليعدّلها ويوجّهها نحو هدف جديد. أما المعاني، وهي أساساً في متناول الجميع، فقد رفعها على عوارض جديدة وفّرتها خبرته الناضجة التي خضَّعها لقوانين الفكر وفروسية الخُلُق. فهذا الشاعر أحدث خضّة، فسقف الزجل المُسطَّح تحوّل معه مُقَبَّباً بالعِبرة والقِيَم، فشعره الرّقيق الجنبات، لم يكن شفرات فؤوس ورؤوسَ حراب، بقدر ما كان النقوش المرصّعة على صفائحها. وقصائده لم تكن بلاغات رسمية بقدر ما كانت لوحات ظاهرها ألوان وأشكال، وأهدافها دروس موجِّهة الى متلقّين. وكأنّ أبو أنطون، في هذا المجال، لم يقف عند مبدأٍ يعتبر وجود المتلقّي واحداً من أسس الإبداع الرئيسية فحسب، بل تجاوز ذلك الى اعتباره مشاركاً في إنتاج القصيدة نفسها.  

الجمال ليس أسير الغموض، إنه حالة قدسية لا ينتهك حرماتها إلاّ المُبدِع، ولا يستلم تمثالها سوى أيدي الخلاّقين. والجمال في شعر ابو أنطون هو صنيعة الرقّة والعذوبة، ما يعكس تماماً روح الشاعر التي ما أبدعت إلاّ لإرضاء شهوة

السّمع عند الذوّاقة من الناس. والملفت في جماليّات " زهر الخريف "، بالإضافة الى الوطنيّات والمناسبيّات، تلك المقاطع القصيرة التي تنضح منها الحكمة في بلاغة مدهشة، حتى يمكن القول إنّ صاحبها الخبير المتأمّل هو الأَدرَب في نسجها، ما يجعل غالبها يسري مسرى الأمثال التي تدخل في دائرة علم الإجتماع الواقعي. وهذا الحصاد لطبائع البشر وما يمسّ حميميّاتها، بما فيه من دقّة وسِعَة، يؤكد مع أبو أنطون على أن الألوهة التي تخلق الشاعر شاعراً منذ الحَبَل به، هي نفسها تختاره أثقل حِملاً من غيره.  

الزجل ليس فنّ البرابرة، وليس صناعة الأزمنة البدائية القَبلطوفانية ليندثر، إنه لغة الأجيال ونتاج لهيب العبقريات وسجلّ لعزّ هويته لبنانية. وهو لا يزال يعبّر عندنا عن مظلوميّته من عدم إدراجه في مناهج التعليم، وهذه صرخة كان لجورج أبو أنطون الأسبقية لها والفضل في التنبيه إليها. ولعلّ صرخته تكتسب دويّاً أكبر وتساهم في اختصار الصّراع بين الزجل وهاجس البقاء، صرخة هي، فوق قيمة جورج أبو أنطون، قيمة له .مضافة.