Articles

Art in the press

غسان كنفاني رمز نضالي مقاوم ونموذج يحتذى 1936-1972

يختلف الكثيرون من الناس بين بعضهم البعض، بطباعهم وأمزجتهم ونمط تفكيرهم وعقليتهم، وبالتالي نمط تصرفاتهم و تعاملهم مع الغير. ومن هذا المنطلق، فان بعض هؤلاء تقتلهم حماستهم، والبعض الآخر تقتله شجاعته المتهورة، والقليلون منهم تقتلهم "معلومة" معينة انفلتت مصادفة من مخزن حياتهم البشرية، المفرطة في سريتها... ويبقى للقليل القليل من بين هؤلاء من تقتله جرأته الملتزمة بقدسية القضية الى حد "الأهمال" باتخاذ الاحتياطات اللازمة للمحافظة على الحياة في سبيل حياة القضية والثورة والوطن، باعتبار أن حياة هذه القلة من الناس لم تعد ملكا ً لصاحبها، بل لما يمثله من جهة، ولمن يمثل من جهة أخرى...

و من هذا القبيل كان المناضل العربي الفلسطيني غسان كنفاني، الذي استشهد يوم الثامن من تموز / يوليو 1972، على أرض بيروت التي أصبحت قطعة من لحمه ودمه، وبالتحديد، على أرض منطقة الحازمية في صباح يوم حار، على صعيد الطقس والوضع السياسي. وقد جسد كنفاني بالفعل حقيقة ساطعة تؤكد أن الشهادة ليست طريق الفناء والنهاية، بل هي طريق البقاء والاستمرار والخلود... تماما ً كما أنه ليس المهم أن نستشهد، بل المهم أن نصنع باستشهادنا أسطورة الحياة لأجيال لاحقة بنا، لاقتطاف ثمرة الاستشهاد وتحويلها لصالح الشعب والوطن والقضية... اذ أن الرحيل الجسدي لا يعني نهاية الحضور الابداعي الخلاق...

ولد المناضل غسان كنفاني في مدينة عكا سنة 1936، أي في تلك السنة العربية التي شهدت أطول اضراب عربي في التاريخ ضد المستعمر البريطاني وحلفائه الصهيونيين. ولد من عائلة متوسطة، وانتقل مع أبويه الى يافا حيث تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة تابعة لارسالية فرنسية (هي مدرسة الفرير في يافا). وقبل أن يكمل عامه الثاني عشر، قامت العصابات الصهيونية بمهاجمة المدن الفلسطينية، وارتكبت فيها المذابح التي تقشعر لها الأبدان، والتي تؤكد أن العنصرية والاجرام تسري مع الدم في عروق بني صهيون وحلفائه الكبار والصغار؛ فاضطر غسان الى النزوح مع عائلته، المكونة من أبويه وجده وسبعة أشقاء، الى جنوب لبنان، حيث أقاموا هناك فترة قصيرة من الزمن قبل أن تنتقل العائلة الى سورية، وتستقر في دمشق.

فرضت حياة اللجوء على غسان أن يشتغل عاملا ً في مطبعة، وموزعا ً للصحف، وعاملا ً في مطعم. رغم ذلك، كان يتابع دراسته الاعدادية ثم الثانوية نهارا ً اذا استطاع، وليلا ً اذا لم تتوفر له الظروف المناسبة، الى أن حاز شهادة الدراسة الاعدادية سنة 1935، فاشتغل معلما ً في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين في دمشق. ثم حاز، بدراسة خاصة، شهادة الدراسة الثانوية، فترك دمشق سنة 1955 الى الكويت للعمل مدرسا ً في مدارسها. انتسب خلال عمله الجديد الى جامعة دمشق ونال شهادة الاجازة في الأدب- قسم اللغة العربية- وكانت الرسالة التي قدمها سنة دراسته الأخيرة بعنوان: "العرق والدين والأدب الصهيوني".

كانت فلسطين، والكفاح من أجل استردادها وتحريرها من الاحتلال الصهيوني، هاجس غسان كنفاني منذ نعومة أظفاره، وقد انعكس هذا في بداياته الكتابية، ولا سيما القصصية... وفي أواخر سنة 1954 بدأت مجموعة من أفراد حركة القوميين العرب تؤسس مقرا ً لها في دمشق، وأصدرت مجلة "الرأي"، كما قامت بتوزيع نشرة "الثأر". وقد وجد غسان في هذه المجموعة، وفي الاتجاه الذي تعمل فيه، وهو فلسطين، ما كان يبتغيه، فبدأ يتصل بأفرادها أولا ً، ثم أخذ يكتب في مجلة "الرأي". وما ان انتقل الى الكويت في أيلول سنة 1955 حتى كان واضح الاتجاه، بين الارتباط. فأخذ ينشط هناك من خلال تنظيمات حركة القوميين العرب، والنادي الثقافي القومي الذي كانوا يهيمنون عليه، ومن خلال مجلة "الفجر" الأسبوعية التي كانوا يصدرونها.

والواقع، لقد بدأ نجم غسان كنفاني يلمع في دمشق. اذ في سنة 1953 كتب قصته الأولى بعنوان "أنقذتني الصدفة" وأرسلها الى برنامج أسبوعي كانت تبثه اذاعة دمشق تحت اسم "ركن الطلبة". وبالفعل أذيعت القصة مساء 24 تشرين الثاني 1953. ثم نشر قصته الثانية في مجلة "الرأي" عام 1953 بعنوان: "شمس جديدة" التي تدور أحداثها حول طفل صغير من غزة. وعندما سافر عام 1955 الى الكويت ليعمل مدرسا ً للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية، كان في هذه الأثناء يعمل في الصحافة أيضا، كما بدأ انتاجه الأدبي في الفترة نفسها بالنضوج. وهناك من خلال مشاهداته للصحراء، ولأبناء شعبه، وللعلاقات السائدة، أخذ يختزن في ذهنه مئات الصور والفواجع الانسانية ليستفيد منها بعد سنوات في روايته الشهيرة "رجال في الشمس" التي كتبها سنة 1963.

وفي الكويت أيضا ً، كان غسان كنفاني، يحاضر قوميا ً وثقافيا ً وفلسطنيا ً، ويكتب لمجلة "الفجر"، ويدقق طبعاتها. كما يشرف على مسابقات النادي الثقافي القومي الأدبية، ومن ذلك مسابقة القصة القصيرة التي نشرت في مجموعة "القميص المسروقة"، وكان لغسان أبرز قصة قصيرة فيها. وقد أثر فيه هذا الجهد الكبير، فأصيب بمرض السكري، وأدخل المستشفى، ثم أخضع بعد خروجه لنظام غذائي وعلاجي مقيد، فأثر هذا في في نفس غسان، ولكنه لم يفقده مرحه، بل ظل يتحدى المرض حتى لحظة اغتياله. وفي احدى رسائله الشخصية كتب يقول:

"في الثانية عشرة من عمري، عندما بدأت أتحسس معنى الحياة، قذفتني الحياة لاجئا ً مشردا ً خارج وطني. والآن، عندما أخذت أتحسس طريقي يأتي السيد (مرض السكري) ويريد بكل بساطة، بكل وقاحة، أن يقتلني. هل علي أن أسلم مع سارتر وأقول: الانسان عاطفة غير مجدية. متى؟ الآن عندما بدأت أقتنع بأن من الممكن أن تكون الحياة مجدية".

عرف غسان كنفاني في الكويت أيضا ً بعض مآسي شعبه، مآسي التغرب، والمغامرة بالنفس والهجرة والخضوع لألاعيب المهربين وحيلهم... كل ذلك من أجل اطعام الأفراد الذين يتركهم رب الأسرة أو أحد أفرادها وراءه في المخيم، حيث عالم اللجوء، أو في البلدة التي فقدت كل مقومات كفايتها في سبيل العيش. ولطالما مات كثيرون من هؤلاء عطشا ً أو اختناقا ً وهم يحاولون العبور الى مناطق النفط الغنية، وبخاصة الى الكويت، طلبا ً للرزق. ومن هذه المآسي - كما قلنا - استوحى غسان روايته الشهيرة "رجال في الشمس". وقد رأى فيها أن الهجرة نحو المشرق، بعيدا ً عن الوطن، مقتل للمهاجر، والحياة لا تكون الا بالسير غربا ً، عبر النهر، نحو فلسطين من أجل تحريرها من المحتلين. وكرر غسان هذا الشيء نفسه في مجموعته القصصية الأولى "موت سرير رقم 12"، فهي تكشف، كالقصص الأخرى التي كتبها في الكويت، عن عالم ثري بالتجربة، التجربة الحياتية، وعن محاولات شاب يطمح الى تملك أدواته الفنية، والى السير في الطريق النضالي الصحيح من أجل قضيته.

غادر غسان كنفاني الكويت سنة 1960 الى بيروت، حيث انضم الى أسرة تحرير مجلة "الحرية" الناطقة باسم حركة القوميين العرب. وازداد اسم غسان لمعانا ً، فتولى رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية، وكان يشرف على الملحق الأسبوعي الذي تصدره "المحرر" باسم فلسطين. ثم انتقل رئيسا ً لتحرير جريدة "الأنوار" اليومية أيضا ً، وكتب تحت اسم "فارس فارس" (1967-1969)، وكان له في صفحتها الأولى عمود يومي عنوانه "أنوار على الأحداث" خصصه لمعالجة القضايا القومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. كما عمل أيضا ً في مجلة "الحوادث" حتى عام 1969، والتي نشر فيها رواية شهيرة بعنوان "من قتل ليلى الحايك؟"، ورواية "عائد الى حيفا"...

وفي 26 تموز/يوليو 1969، ترك غسان كنفاني صحيفة "الأنوار" ليتولى رئاسة تحرير مجلة "الهدف" التي أصدرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان قد أصبح عضوا ً في المكتب السياسي للجبهة، وناطقا ً رسميا ً باسمها، ومسؤولا ً عن نشاطها الاعلامي. وقد شارك في وضع البيان السياسي للجبهة، والمعروف باسم "برنامج آب 1969". وبالفعل، يمثل غسان كنفاني، نموذجا ً خاصا ً للكاتب السياسي والروائي والقاص والناقد، كما للمثقف الملتزم. فكان مبدعا ً في كتاباته كما كان مبدعا ً في حياته ونضاله واستشهاده. وقد نال سنة 1966 جائزة" أصدقاء الكتاب في لبنان"لأفضل رواية عن روايته "ما تبقى لكم". كما نال جائزة منظمة الصحافيين العالمية عام 1974، ونال جائزة "اللوتس" التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وافريقيا عام 1975 (أي بعد استشهاده)...

هذا، وقد عرفت غسان كنفاني عن قرب، قبل استشهاده بسنوات، وكانت مجلة "الهدف" ومقرها، الملتقى المفضل لنا... وكنت معجبا ً بنشاطه وديناميكيته وثقافته اعجابا ً كبيرا ً، كما كنت معجبا ً بصدقه واخلاصه وشفافيته أيضا ً... وانني لا أذيع سرا ً اذا قلت، انه كان أول من أرشدني الى اختيار اختصاصي العلمي في "التاريخ"، (وقد ذكرت ذلك من قبل في احدى مقالاتي عنه، بمناسبة ذكرى استشهاده، نشرت في مجلة "الهدف" أيضا ً). وقد حصلت الواقعة على الشكل التالي:

انه في السابع من تموز/يوليو 1972، أي قبل استشهاده بيوم واحد، وكان يوم جمعة، زرته في مجلة "الهدف". وقد دخلت عليه في مكتبه – كعادتي - بدون موعد، وفتحت عليه الباب دون أن أسمع منه كلمة "تفضل"، بعد دقات ثلاث. وسرعان ما فاجأني فور وقوع نظره علي، قائلا ً لي: "اذا تمكنت من متابعة دراستك الجامعية، فاني أنصحك باختصاص "التاريخ" دون غيره من العلوم الأخرى". وقبل أن يترك لي فرصة التحية عليه، أو الجواب على نصيحته، عاد ليقلب صفحات كتاب كان يحمله بين يديه، وهو يقول (بنوع من الانشاد):

غدا ً سيزهر الزيتون... غدا ً سيثمر البرتقال... غدا ً سترتوي أرضنا... غدا ً ستملأ أرضنا الغلال...

والحقيقة أنني لم أفهم معنى كلماته تلك، الا في اليوم التالي، عندما سمعت بنبأ استشهاده... وأدركت عندها أن "حدسه" أو "الحاسة السادسة" لديه، كانت قد أحاطته علما ً بما سيحدث له... ولهذا كرر كلمة "غدا ً" على مسمعي، مرات عدة... دون أن يوضح لي مقصوده، فجاء استشهاده في الثامن من تموز 1972، ليفسر لي، وللعالم كله، ماذا كانت تعني له كلمة "غدا ً"...

وهكذا، في صباح الثامن من تموز /يوليو 1972، وبعد دقائق معدودة على خروج غسان كنفاني من منزله في الحازمية، كعادته، الى مركز عمله في مجلة "الهدف" وبرفقته ابنه أخته "لميس حسين نجم"، دوى انفجار كبير اهتزت له منطقة الحازمية، وسمع في مختلف أنحاء العاصمة بيروت. وتطاير على أثره غسان كنفاني، ولميس، كما تتطاير الشظايا في الفضاء.

استشهد غسان كنفاني على أيدي عملاء العدو الصهيوني، عندما زرعوا عبوة ناسفة في سيارته الخاصة من نوع "أوبل"، وكانت عبارة عن قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت انفجرت بدورها لتفجر السيارة ومن فيها.

في هذا الاطار، تقول زوجته ورفيقة نضاله السيدة "اني": بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس، سمعنا انفجارا ً رهيبا ً وتحطمت كل نوافذ البيت.. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته... وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار... ولم نجد غسان... ناديت عليه... وثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت بلا حراك، في حين أخذ فائز – ابنه - يدق رأسه بالحائط، وليلى – ابنته - تصرخ: بابا.. بابا.. لقد قتلوك..

والجدير ذكره هنا، أن المحققين وجدوا الى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول:" مع تحيات سفارة اسرائيل - كوبنهاغن". هذه الورقة لها معناها المحدد. وهي تكشف عن جانب هام من جوانب نضاله السياسي... فماذا تعني هذه الرسالة الغامضة؟

من المعروف أن غسان كنفاني كان متزوجا ً من فتاة دانماركية اسمها "آني". هذه الفتاة كان لها دور كبير في حياة غسان ونضاله السياسي ونشاطه الثوري. وقد اعتمد عليها غسان في توثيق صلاته بكثير من الأوساط الأوروبية... بل واعتمد على مساعدتها له في الحصول على كثير من الوثائق المتصلة بواقع العرب في الأرض المحتلة، هؤلاء الذين كانوا يبلغون أكثر من نصف مليون عربي داخل فلسطين المحتلة قبل عام 1967، والذين أصبحوا أكثر من مليون ونصف مليون مواطن بعد أن وقعت الضفة الغربية لنهر الأردن تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني. لذلك فان هذه الورقة التي عثر عليها المحققون بمكان الانفجار تعني اشارة واضحة للدور الذي لعبه غسان من خلال هذه الزوجة المثقفة الوفية لزوجها، ولقضية فلسطين وشعبها العربي.وتجدر الاشارة الى أن غسان التقى مع "آني" لأول مرة وهي تقوم بزيارة لبعض الدول العربية لاعداد دراسة عن "اللاجئين الفلسطينيين". وقد تعرفت على غسان باعتباره كاتبا ً فلسطينيا ً يمكن أن يساعدها في اعداد البحث وتقصي الحقائق... وانتهت هذه المعرفة الى الزواج...

لقد كانت فلسطين هي هاجس غسان كنفاني، وجسد ذلك في سيرته وفي كتابته، حيث ناضل من أجلها وهو على مقاعد الدراسة، ثم في سلك التعليم، ثم وهو متفرغ في حركة القوميين العرب، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأخيرا ً قدم حياته في سبيلها.

وفي انتاجه الأدبي والفني الغزير كانت فلسطين هي الناظم لهذا الانتاج. لقد خلف غسان وراءه مئات المقالات واللوحات الفنية والتعليقات السياسية والخواطر الأدبية، وعددا ً كبيرا ً من الدراسات الأدبية والمسرحيات والمجموعات القصصية والروايات، صدرت متفرقة أولا ً ثم في مجموعة مجلدات تحت عنوان "الآثار الكاملة - غسان كنفاني" عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في بيروت... كما ترجم بعضها الى عدة لغات أجنبية. لقد أبدت الصحف الصهيونية، في الواقع، اهتماما ً كبيرا ً باستشهاد غسان كنفاني في اليوم الأول لصدورها بعد الاغتيال. وركز"زئيف شيف" في مقال كتبه في جريدة "هارتس" بتاريخ 9/7/1972، على علاقة غسان كنفاني بجماعة اليابانيين، أعضاء الجيش الأحمر الياباني، الذين قاموا بعملية مطار اللد، وهم:"أوكاموتو" و"أكاديرا" و"ياسودا"، حيث استشهد الأخيران في العملية ولم يبق سوى"كوزو أوكاموتو" الذي وقع في الأسر، فاعتقل وعذب حتى قارب الموت، ولم يطلق سراحه الا منذ فترة، على أثر عملية تبادل للأسرى، وجاء الى منطقة البقاع اللبناني، حيث أجرت معه بعض الصحف والمجلات العربية والدولية مقابلات مطولة، شرح فيها ظروف العملية وعذابات السجن... وأصبح "أول لاجىء سياسي" في لبنان بعد موافقة السلطات اللبنانية على ذلك، تقديرا ً لنضاله وتضحياته في سبيل فلسطين والقضية العربية.

وأضاف "زئيف شيف" قائلا ً:" بحسب جميع الدلائل كان لكنفاني علاقة مباشرة بعملية تخطيط المذبحة في مطار اللد... وأن المسلحين سيفهمون موت كنفاني بأنه "الرجل الثالث في المنظمة بعد جورج حبش والدكتور وديع حداد". وأضاف: "بينما كانت هناك حراسة مشددة على حبش وحداد، كان كنفاني مكشوفا ً أكثر بسبب مهمته كناطق باسم الجبهة، وكرئيس تحرير لمجلتها "الهدف". ويعتبر مراقبون عسكريون وخبراء بشؤون الفلسطينيين مقتل كنفاني أنه ضربة قاسية" . وقد أوفدت جريدة "هارتس" مراسلها "يهودا آرئيل" الى عكا، ونشرت معلومات عن غسان وعن عائلته قبل النزوح.

كما كتبت "دافار" بنفس التاريخ مقالا ً أظهرت فيه تشفيا ً بقتل غسان كنفاني وقالت: "ان موت كنفاني هو ثمرة نشاطه في حياته. ان التحريض على الارهاب وتبريره هو جزء لا يتجزأ من تدبيره وتنفيذه، ولجميع الذين يمارسونه المصير نفسه. ان أولئك الذين يساعدون الارهاب، نهايتهم دفع الثمن بالعملة نفسها التي جعلوها هم أنفسهم متداولة... ان هذا الأمر لا ينطبق فقط على المسلحين من القاعدة الذين يفقدون حياتهم، وانما على الذين يرسلونهم أيضا ً، والذين يظهرون بمظهر السياسيين والكتاب".

وكانت جريدة "معاريف" قد نشرت بتاريخ 9/6/1972، بعد العملية الفدائية في مطار اللد، مقالا ً عن علاقة الجبهة الشعبية بالجيش الأحمر الياباني، ونشرت مع المقال صورة ظهر فيها غسان كنفاني وكتب تحتها: "ثوري ياباني" انضم الى الجبهة في لبنان بصحبة غسان كنفاني من زعماء "المخربين". والحقيقة، أنه اذا عدنا الى ما كتبه غسان فاننا ندرك بعمق أنه كان على مستوى الخطورة. ولو لم يكن كذلك لما اغتيل.

يكفي أن نشير ، في هذا المجال، الى نموذج من كتاباته عن المقاومة، لنؤكد حقيقة ما ذهبنا اليه، وما كان عليه غسان. ففي كتابه، مثلا ً، عن "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال "(1948-1968)، كتب غسان كنفاني في المقدمة يقول:

"ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا ً في الأرض؛ واذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فان البندقية ذاتها تنبع من ارادة التحرير؛ وارادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والحتمي والمنطقي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف".

ويضيف غسان قائلا ً: "ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي، ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل واحدهما الآخر، الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرار مسيرتها وتحيطها بالضمانات... ومن هنا فان الشكل الثقافي في المقاومة، يطرح أهمية قصوى ليست أبدا ً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالي فان رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح"...

لقد كان شعار غسان "الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"... لم يخف على رأسه مرة واحدة، كما فعل الكثيرون في أيامه، وبعد غيابه. ولو خاف على رأسه مرة لما اغتيل. أليس هو القائل: "نحن الجيل الذي يمهد لجيل الثورة". نعم... انه مع الشهداء، يمثلون جسر العبور من المنفى الى فلسطين. انهم جسر الحرية الذي جبل بدم الكرامة والتضحية والشرف والفداء...

والثورة، في النهاية، وقودها رجال "رجال لا حطب"... ومرحى بأمثال هؤلاء الرجال الذين يعرفون كيف يزقمون حب القضية الى أبنائها وأصحابها أولا ً وقبل كل شيء، لكي تدخل بعدئذ كل بيوت الدنيا من الباب الواسع. والعظماء لا يمحوهم الموت من ذاكرة الأجيال ولو غيب أجسادهم... ولكن:

"الأشخاص يزولون، والقيادات تتغير.ز. وتبقى القضية أكبر من الأشخاص والقيادات"... وغسان واحد من أولئك المقاومين، تحدى الموت بالابداع والصبر... حتى قهره الموت...

المراجع

1-"الموسوعة الفلسطينية". المجلد الثالث. هيئة الموسوعة الفلسطينية. دمشق. الطبعة الأولى 1984. ص 403-404.
2- د. صالح زهر الدين "موسوعة أسرار من التاريخ". الجزء الأول. مؤسسة الرحاب الحديثة. بيروت. الطبعة الأولى 1994. ص 135-141.

3- مجلة "الهدف.". بيروت. العدد 165. تاريخ 19 آب 1972.

4- مجلة "شؤون فلسطينية". العدد 13. أيلول 1972.

5- يعقوب العودات" من أعلام الفكر والأدب في فلسطين". عمان 1976.

6- الاتحاد العام للكتاب والصفحيين الفلسطينيين:" غسان كنفاني انسانا ً وأديبا ً ومناضلا ً". بيروت 1974.

7- رضوى عاشور "الطريق الى الخيمة الكبرى". بيروت 1977.

8- هاني الخير "يحدثونك عن أنفسهم". الجزء الثالث. دمشق.

9- الصحف اليهودية "هارتس" و "دافار"في9/7/1972. و"معاريف" في 9/6/1972.

10- مؤلفات غسان كنفاني، خصوصا ً كتاب "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968". مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت. الطبعة الثانية 1981. ص7-8و13.