Articles

Art in the press

هموم الفن في المباينة والمشادة والحرية

المعرض العدد الحادي والاربعون شباط - نيسان 1935 ص 18.

يولد الفن في المباينة، ويعيش في المشادة، ويموت في الحرية! فاعجب لذلك الوليد المنقطع النظير! يخرج من الطبيعة فيخالفها. ويتقلد سلاحها فينازلها، ثم يتهافت الى الارض يوم يتولى عنها!

فالصنيع الفني مفرد طالما لا يشبه صنيع الطبيعة، متحرك طالما لا يسكن في قصرها، متزن طالما لا يبعد عن حدها. وبذلك يكون في شيمه المثلى: انفراد وتحرك واتزان.

والفن والطبيعة لا يبرحان في المشادة منذما كورت الارض. فهما يلتقيان، ويتعانقان – كما يقول مساكين الكتاب- الا ان الفن، لسوء حظ اولئك، لا يعانق امه الا ليشد على خناقها... فيخرج هو القصيدة في زهرة الورد مثلا. وتخرج هي زهرة الورد نفسها، فاذا القصيدة معدومة الشبه في القصائد، من ناحية النفس والاداء، فضلاً عن التوفيق او الفشل – في حين ان زهرة الورد لا تكون فريدة في الورد، ونظائرها نوابت في كل صعيد. فزهرة الورد كأختها زهرة الورد ابداً! ومن هنا يتعالى الفن ، ويتفرد، وتتدنى الطبيعة وتتبذّل... فصنيع الفن اذن وحد وصنائع الطبيعة آحاد. لذلك تغار الطبيعة من صنوها المتكبر وكأنما تعنت نفسها في مجاراته!

هذا في صفة الفن الاولى، المباينة، اما في الثانية، وهي المشادة، فبحسبك ان تعلم ان من نعم الله على ( ميكال انج) يوم صنع ( تمثال موسى) كون المرمر الذي بين يديه من الصنف الدنيء. حتى اذا انتهى في النحت الى اليد، والحجر يقسو تحت المنقاش، راح صاحبنا يلملم عند الصلادة من اشارة ( موسى) ، ويقصر ما بين الساعد واللحية، الى ان جاءت الاشارة، وهي غرة النقش على الازمنة!

وهكذا يصدع الفن الطبيعة حين تتصلب ويجالدها مجادلة المقتدر. بل هكذا يمد من حدها لينطلق حر الجناح في المدى الجديد. فهو كلما زخر وجاش، تدفق على حوافي الحدود كأنما يهم ان يتفلت من كل عائق.

والفن لا ينطرح في حضن الطبيعة الا وهو عليل مكدود مقلم الاظافر فيداريها حين لا يستطيع ان ينشب ظفره في مقتلها. اما اذا تعافى، واحسن النشاط فالويل لها من ساعده المفتول ونابه المحدد.. فتراه في العلة يسكن الى كل بادرة، وتراه في العافية ينطح الفلك! ولذلك تجد الادب في عصور النهضة يتبرم من الاعتياد ويتبسط في الابتداع مثلما وقع لاهل " النهضة" Rennaissance في خلق المقطع Sonnet وللاندلسيين في خلق " الموشح".
والذي يقال في الادب، يقال في سائر الفنون، اذ ان ( بتهوفن) مثلاً لم ينته الى ملكوت الفن، الا يوم نفض النغم المعتاد عن اذنه، وانطلق يهمهم عند حدو الطبيعة بالف نغم طريف.

اما الحرية فقاتلة الفن. تغريه من بعيد ، وتوسوس له حتى اذا وقع في الفخ، ادرك ان الحرية ليست من نعم الله على الصناعة. ولقد كان قدماء اليونان- وهم اساتذة الخلائق في الفنون بلا جدل - يطردون من ارضهم من يضيف الى القيثارة وتراً آخر...

فالحرية في الفن ذات دائرة، من تعداها، تعدى عقله لا أقل ولا أكثر. وانك لتستطيع في دائرة الحرية هذه ان تضع قدماً في قطب الجنوب وقدماً في قطب الشمال، وتصبح الدنيا من تحت قدميك هكذا، قبل ان تستطيع مثلاً ان تطلق طائراً في جو لا هواء فيه!!

وابن الفن في دائرة الحرية، كأنما شدّ بخيط. فحلق حيث تشاء، ورفرف على رؤوس النجوم، وعرّج على منازلها ولكن اياك ان تقطع الخيط، فينقطع ما بيننا وبينك!

فعلى الادب ان يخالف الطبيعة وعليه ان يجالدها ولكن ليس له ان يطرح من عقله مثقال ذرة في تينك الحومتين. وما دور ابن الفن في الفن الا ان يعرف كيف يشد على الخيط، خيط العقل، فلا يفلت من يده. اما اذا افلت، فلا المباينة تشفع بالصنيع الفني ولا المشادة. اذ الشرط في كل شيء، ان تكون ذا عقل قبل كل شيء!

... اما نحن، فعندنا في الفن، هم فوق الهموم الثلاثة، وهو اجل منها وادهى. ذلك اننا لم نستطع بعد ان نحصي نجوم الليل وهموم الفن!!