Articles

Art in the press

عمر فاخورى فى تأبين مصطفى المنفلوطي

المعرض العدد الحادي عشر - أيلول - كانون الأول 1924

الخطاب بل الدرس الدقيق الجديد الذى ألقاه الأستاذ / عمر فاخورى فى حفلة تأبين المنفلوطى:

قال الزبير بن بكار: حدثتة ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت: مررت بجدك عبد الله بن مصعب وانا داخلة منزله وهو بفنائه ومعى دفتر: فقال ماهذا معك؟ ودعانى . فجئته وقلت: شعر عمر بن ابى ربيعة .فقال :ويحك! تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبى ربيعه؟ أن لشعره موقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً. لو كان شعر يسحر لكان هو ، فارجعى به.

هذا نموذج رب العائلة الصالح – السهران على باب داره فلا يلجه لص فى غسق الليل أو فى رائعة النهار... حسنا يفعل!

وقال هشام بن عروة : لا ترووا فتيانكم شعر عمر بن ابى ربيعة ليتورطوا فى الزنا تورطاًً. أظن ابن عروة هذا من الفقهاء . وهو يقيناً من متحرّجة الأخلاق أهل التقى الذين يقومون ايقاظاً على سور المجتمع . لقد أتوا بنصائح ومواعظ كثيرة من هذا القبيل. هم محقون ألف مرة ومرة...كانت حياة عمر بن أبى ربيعة أعجب من شعره وصفها ابن خلكان بجرة قلم فى هذه الجملة الجامعة: كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة وله فى ذلك حكايات مشهورة.

دون جوان العصر الأول الإسلامى. يشبب بكل إمرأة جميلة سواء أكانت له بها صلة أم رآها وان لمحاً فأعجبه حسنها . قيل أنه كان يقيم بمكة ، فإذا آن الحج اعتمر فى ذى القعده ولبس الحلل الفاخرة وركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج وسبل لمته:أناقه ولا تظرّف لا غاية بعدهما ثم أخذ يتلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدنيات إلى مر،ويتلقى الشاميات إلى الكديد.

كان شعره تصويراً ومثيلا لحياته. وكانت حياته عدواً حثيثاَ وراء متعة الجمال الزائل ، ووراء لذات الحب الخادعة عن هذا الزوال .العمر قصير والعيش فرصة سانحة ، وهو اختار ان يكون نخلة تشتار من زهرات الحياة قبل ذبولها خمراً معسولاً .

احببت أن أقدم مثالاً حياً – ربما كان به شيئ من العنت- ابين فيه بعض المسائل التى تخطر لى كلما نظرت فى الأدب عامة أو فكرت فى أديب خاصة. ولقد خطرت لى حينما سئلت أن اتكلم عن فقيد البيان المنفلوطى رحمه الله .وان معرباته من رواية " تحت ظلال الزيزفون لألفونس كار "التى سماها للعرب" ماجدولين " إلى قصة " بولس وفرجينى" لبرنارد دوسن بيار التى سماها " الفضيلة" وما لخص بين هذه وتلك من قصص افرنسية " كلادام أو كماليا " مثلا- هذه المعربات تدل على أنه كانت فى الأدب الهموم والمقاصد التى ألمحت إليها . كل هذه الروايات والقصص ان هى إلا حكاية الحب وحكاية هنائه وعذابه ، وسعادته وآلامه . وهنا سر من أسرار النجاح العظيم الذى نعم به المنفلوطى ، اعنى نجاحاً أقرب مقياس يقاس به هو انتشار كتبه ونفاقها بشكل لم نرا مثله لأحد من أدباء هذا العصر .هذه أقل ما تكون بشارة خير : كثر عدد القراء.

لأمر ما بدأت بالكلام على معربات الفقيد فأنى أحسبها خير ما أخرجه لقراء العربية ، برغم انه ليست فى الأصل خير ثمار القرائح الأوربية وبرغم انها مترجمة بالواسطة، وبرغم انه كان للمنفلوطى ، غفر الله له ، رأى فى التعريب عجيب وجرأة على التغيير والتحوير والقلب عاليا على سافل ، جرأة لا يسمح المؤلف نفسه لنفسه بأكثر منها. والمعربات برغم هذا كله خير ما أخرجه استاذنا من وجهة نظرنا إلى الآن .

أما وضعه أو تصنيفه فقد يسترعى الذهن فيه إن المنفلوطى رحمه الله كان يُؤثر : " الكتاب" على الحياة ، ويرجع إليه أكثر ممايرجع إليها فى التصور والتفكير والشعور .

لا أريد هنا اثارة الجدل القائم حول القديم والجديد: صارت هذه المسألة خطاً مشهوراً وأنا أيضاً وقعت فيه. لأنه ليس فى الحقيقة قديم وجديد من حيث اصول الفن وجوهره. قد تختلف المظاهر وتتنوع الأساليب من جيل إلى جيل وبين فنان وآخر،ولكن قصاراها إلى أصول واحده وإلى جوهر فرد . الكاتب والشاعر – الفنان الذى يفكر فأنت تفكر معه، او يشعر فأنت تشعر معه ، أو يصور فكأنك تشهد معه هو كاتب وشاعر- فنان والطبيعة والحياة هما المبدأ والمعاد فى الأدب وفى الفنون كافة. ولكن لا يكفى أن نعتقد ذلك وأن نقول: عرفناه وأن نعلنه على رؤوس الأشهاد، ثم نبتسم ابتسامة الرضا فنغمض اعيننا ونصم آذاننا ونتوسد – قائلين: تصبحون بخير! – مجلدات الكتب تطيف بنا من صحائفها رؤى الأحلام. كلا، لا يكون فنانا من شاء! ينبغى أن يجلى البصر وأن يرهف السمع وان يوقظ الفكر وأن تستجمع كل قوى الانتباه والإرادة والإحساس – وكل هذا يحتاج إلى تصد وروية وتربية ورياضة- وينبغى أن ننتشر فى فجاج الأرض وأن نضرب فى مجاهل الحياة.

هذه أبسط الحقائق وأولاها فى الفنون والآن ماهو الأثر الأدبى قصة كان أم قصيدة؟ الأثر الأدبى تأويل للوجود، ولا فرق بين الوجود الظاهر والوجود الباطن ، بين ان يكون مادة وبين أن يكون معنى . تأويل للوجود وأداء له وتعبير عنه واقتباس منه، بأداته الكلم والجمل.

فى كل أثر أدبى عنصران : أولها هو ما يأتنا من طريق ملاحظة ما حولنا وعرفان ما بنفسنا وثانيهما هو ما نقله الينا المتقدمون مما أتاهم أيضاً عن ذات الطريق .

والكتاب يختلفون اولاً من حيث أسلوب التفكير والإحساس والتصوير وثانياً من حيث البعد عن التقليد والنفرة منه أو القرب من الطبع والأنس به. وأن أقربهم من هذا الطبع وأبعدهم عن ذلك التقليد هو أقربهم من الحياة الطبيعية وأقلهم تذكرا لما طالعه فى كتب السلف وأضعفهم تأثراً به .

الخلاصة : نقول هذا كاتب مطبوع إذا كان بعيدا عن تقليد غيره ، ذا شخصية قادرة طامعه بتقليد الحياة ومحاكاة الطبيعة. كاتب مطبوع من كان له طابع خاص يبقى فى سجل الأدب . وهذا هو ماعنيته بقولى أن الأستاذ المنفلوطى رحمه الله كان يُؤثر " الكتاب " على الحياة ويرجع إليه فى أدبه أكثر مما يرجع إليها – ويا لسحر الكتاب!.
ويبدو ما قدمته بوضوح رجلاً لمن كان الصدق رائده بالروية مستعانة فى مطالعة كتابية ( النظرات) و (العبرات) ولمن قصد إلى فهم حقيقة فكر الرجل وشعوره وتصوره من وراء موسيقى الألفاظ وسهولة الترسل، أو حاول ( بكلمة واحده) أن يستشف الموجود من خلال التأويل الذى خلفه لنا فى مؤلفاته .

ولقد طالعت مقالته العظمى : كيف أكتب رسائلى؟ لأعلم منها ما مذهبه وماهى أراؤه فى صنعة الأدب وفى اصولها ، فلم ترو غلتى لأن القسم الأكبر منها قوائم لغوية وتاريخيه ( هذه هى الذكريات من المطالعات التى سبق الكلام عليها ).أو محشر من الألفاظ والصور والحوادث الخالية والعبر . وهذا النوع ظاهر الأثر شائع فى انشائه – مثال منه :" الطيورالمحلقة فى الأجواء ، والسفن الذاهبة فى الدأماء ،، والرياض الخضراء ،و الغابات الشجراء، والقصور وتماثيلها ، والبحيرات واسماكها والانهار وشواطئها ، والأزهار ونفحاتها ، والغيوث وقطراتها، ودبيب الحب فى القلب ، والغناء فى السمع، والصهباء فى الأعضاء ،وخلجة الشك ولمحة الفكر وبارقة المنى... " وهكذا.

مثال آخر : "كان يعجبنى كل العجب ويبكينى أحر البكاء واشجاه شقاء المهلهل فى الطلب بثأر أخيه وشقاء امرئ القيس فى الطلب بثأر ابيه وبكاء جليلة اخت جساس على زوجها واخيها ، وبكاء عدى بن زيد على نفسه فى سجن النعمان ، وبكاء متمم بن نويرة على اخيه مالك حتى دمعت عينه العوراء... " وهكذا.

هذا هو " الكتاب " الذى لجأ إليه وعاذبه لأنه وجد بين دفتيه جمالاً وكمالاً وكرما وحلما ونبلا وفضلا وصدقا وخلقاًإلخ،فرارا من الدنيا ومن الناس لأنه " ما حفظ له صديق عهداً ، ولا صان له صاحب سراً ، ولا استدان مرة فنفس عنه دائن ولا دان فوفى له مدين ، ولا رد له مستعير عارية ، ولا شكر له شاكر صنيعة ، ولا فرج له كربته مفرج.... " وهكذا.

أما حسن اختياره للفظ وحسن ذوقه فى البيان فقد بلغا غاية قصوى. وأن لانشائه موسيقى ساحرة ليس أملك منها للنفس وألطف وقعاً على السمع ، لولا وحدة النغم التى تكاد تخدر القارئ والسامع كتهليلة النوم للأطفال ، ولولا أن جملته كثيراً ما تحط فى مقام المفعول المطلق: ينفعل انفعالاً ، ويستحسن استحساناً، ويقدم اقداما، وهكذا.

كان المنفلوطى يحب الأدب فوق كل حب ، وأن فى سبيل هذا الحب وحده ما كان من جرأتى اليوم على تناول هذا البحث . فإذا كان منه ما يعين على حسن فهم الأدب عامة، وأدب الفقيد الكريم خاصة ،عددت نفسى موفقاً إلى القيام ببعض حقه رحمه الله فى التكريم والرثاء والذكر.

" رجل مات والرجال قليل" - " عمر فاخورى" - بيروت فى 26 آب1924