Articles

Art in the press

محمد شامل بقلم الدكتور جورج شبلي

محمد شامل بقلم الدكتور جورج شبلي

في رحلة الحياة الخاطفة، تخطر عينان وراءهما قلب، تريان بلحظات ما يصعب أن يراه كثيرون بعقود. عينان سريعتا الإلتقاط فالإستيعاب، لهما اندفاع خاص غير متردّد، وشعور بتحقيق عجائب، فشخصيّتهما قويّة مسيطِرة ، لا تدع الأحداث تقرّر عنها. عينان من دون خشية الإخفاق، أو الإصطدام بعقباتٍ في الطريق الموصل من المادة الى الحياة.

محمد شامل الذي سلك سبيل الرقيّ الفني، فكّك حجاب العناصر التي تشكّل المحيط الحيوي لجسم الحياة، وسلّم بتولّدٍ يكفي لتفسير كلّ شيء. وكان صاحب نفس مضطرمة، وذلك ما انتهى بهذا المِرجل الذي كان يغلي في صدره الى الإنفجار. لقد قال ما قال، ولو "عالماشي"، للتعليم لا للتمرّن، وبوضوح وجلاء، فاندحرت على قلمه ألغاز، وبرز أدبٌ غنيّ متشعّب قَطنَته شعائر الإخصاب والإبداع، ينثر الدرّ على الدرّ، وكان كالتذكرة في إتقان علم الإجتماع فلا يغادر منه شيئاً.

محمد شامل، فنّان الشعب بل فَتّانه، لم يكن واعظاً أو ناصِحاً، كما درجَ أصحاب الأدب الإصلاحي، لكنّه قاربَ قضايا المجتمع إيماناً منه بأنّ الجهل بها قبيح، والأقبحَ منه الإصرارُ عليه. فالمعرفة تبني المدماك الأساس في ترقّي الشعوب، وتفتح الباب أمام القِيَم الوضّاحة للخير والفضّاحة للشرّ وأساليبِ الزَيَف والقسوة الخبيثة. فالقِيَم الأخلاقية مع شامل فريضة وتَحَدٍّ، وتثبيت لمشروع إنسانيّة الفرد، وسياجٌ يصون من الزَّلَل، ولذلك تبنّى شامل في كلّ نتاجه ما قال أحدهم: إذا أُصيب الناس في أخلاقهم، فأَقيموا عليهم مأتماً وَنوحُوا.

إنّ أهمّ ما ينطق به أدب محمد شامل هو إلزامية سيطرة الإنسان على ذاته، فبدونها يتملّقُ نزواتِه وغرائزَه، ويدخل في صراعٍ بين الحاجات والقِيَم، بين المبادئ والرّغبات، ويطرح أسئلة لا يهتدي لأجوبة عنها. وفي غابةٍ من العادات الذّميمة والتشوّهات، يشحذ شامل الحرصَ بقلبٍ لم تعقل الحيرة يديه، ويطيل الطّواف على ما يستحقّ المواجهة، فيصوّر بيده كلّ صورة ويحكي بصوته كلّ صوت، ليفترش بساط النّقد علّه يصل بنا الى عيش رَطِبٍ هو نقلةٌ لا يعرف قيمتَها إلاّ مَن أَلِف زقزقات الطَّير تبشّر بضَحَوات الربيع.

أدب محمد شامل خبزٌ وملح، أو هو عسَل استخلصه من أزاهير تجاربه وتأمّلاته، وصبّه في قوارير تسعى الى تلطيف الشّقاء الإنساني في المجتمع الشَّريد الذي كاد أن يكون ليلُه لا انقضاء له. هذا المجتمع التائق الى الطّهارة والذي لا يبالي على أيّ جَنبَيه تقع، بعد أن تآكلته وثبات الشهوة وشيطانها، ليس بحاجة الى نُسّاخ وقُصّاص، بل الى حكماء يَلِجون من باب الزمن المرّ ليوقدوا على سُفَره ناراً تُشبِع جوعه الى الأحسن. لكنّ الواضح أنّ محمد شامل، في لمحاته التي تلخّص صور الأحداث، وفي مَجالسه التي يطَّرد فيها القول من فنّ الى فنّ في فخامة وظرف، كان متجاوِزاً. إنه مع الحداثة من دون لوثاتها، ومع التقليد من دون التكهّف فيه، لأنّ " الدنيا هيك". لقد دعا الى العصرنة بتحفّظ، وذلك بدقّة فهم وحلاوة كلام، وبجرأة لطيفة لم تصدم الحُذّاق الذين ينشطون لتطبيل الإباحة والتّحريم، ويعتبرون الصحيح الصّادق كلفةً على قلوبهم.

في أدب "المختار" محمد شامل عُقَد سحر تُولِّه الأَسماع، وهي أمارات من العقل والذكاء وخفّة الروح، ما يوجب الإعجاب، بالرغم من أنه لم يُكشَف من محاسن هذا "المدير" إلاّ القليل. فشوارد قريحته وحلاوة نوادره في التّصريح والتلميح ومُلَح حديثه، أعيانٌ تتحلّى بها أنفاس المجتمع وكأنّه عاشر دهراً أسفار المقامات. ولشامل سياقٌ صريح في لغته القريبة الشفّافة، وهو يجري في مقاصده على منهاج، وحسنِ منطق، وطرافةٍ في شعوره بأهميّة تدوين العادات والأحوال، في دقيق فصولها، حتى لَيشبه مَن يعرف في السباحة أنواعاً لم يحسنها سواه من سَمَك زمانه.

محمد شامل عصرٌ في رجل، يقود سامعه بحسن ديباجته وصافي مُتونه الى الإنشراح، فيُجري فيه مجرى الماء في العود. فهذا المنفرد بالفصاحة من دون "فصاحة" أغرانا بالإعتزاز به، أديباً ظريفاً وسوسيولوجياً مُتبيِّناً ولبنانياً لم يخرج عن عِرف الوطن، ولو كان حظّ مَن سبقونا أجمل من حظّنا في هذا الباب لأنهم عرفوه.