Articles

Art in the press

ميشال طراد الشاعر الملون للياس أبو شبكة

ميشال طراد الشاعر "الملوّن" - المعرض العدد الثامن و الأربعون -أيار - حزيران 1936

فى ذلك الزمان جاء والدى من افريقيا بنبتتين مثمرتين غرس إحداهما فى أرض لنا بظاهر الضيعة والأخرى فى أرض لنا بمكان آخر. وصادفت كل من هاتين النبتتين ما يوائهما من التربة والهواء فنمت وترعرعت واورقت أغصانها وطابت ثمارها واذا هى قبلة الأنظار فى الربيع ومطمح اللذة فى الصيف .

ودارت دورة للزمن فباع عمى ، رحمة الله عليه ، الأرض التى لنا بظاهر الضيعة بعد أن نقل الشجرة إلى حديقة دارنا فى هذه الأخيرة ، وهى عاطفة أثرة لا احمدها فى انسان..... ولكن رحمة الله عليه.

وشاء سوء البخت أوانتقام الطبيعة – والله أعلم – الا يصادف مغرس الشجرة هذه المرة ، ما صادفه مغرسهاالأول فأسرفت فى النمو حتى أكلت ربع الحديقة ، وغلظت أوراقها وعرضت ، وظلت أغصانها تورق وتترامى حتى ارتفعت إلى مدى الشرفة وعكفت على ما يليها من " الشبابيك " والكوى . على أن آفة مشؤومةعاثت فى الثمرة فأفقدتها ذلك العصير اللذيد....

وما أزال إلى اليوم كلما قرأت شعراً لبعض شعراء هذا البلد مرت هذه الشجرة فى ذاكرتى ، وكلما واجهت هذه الشجرة مرّ فى خاطرى هذا البعض من الشعراء.

ولا أعلم فيمَ أقبض بيدى على قلبى واغمض أجفانى أغماضة من يخاف وقوع أمر يخشاه كلما طالعت قصيدة للشاعر العذب " الملون " ميشال طراد " فلهذا الشاعر الجميل الذى يخاطبك أو يخاطب أحلامه بلغة القرية الوادعة وسكونها الصافى طابع ساذج بل من السذاجة اللبنانية الحلوة بحيث أخشى عليه مثل ذلك التحول الذى كثيراً ما قضى على شعراء مثله كانوا يرسلون النفس على سجيتها ولما حالوا عن عهدهم معها حالت معهم عن عهدها وإذا هم – بين ليلة وضحاها- ينقلبون من بلابل وحساسين إلى خواطف وغربان. ولا أعلم فيم أجدنى مدفوعاً إلى مثل هذا التشاؤم كلما توسمت فى شاعر خيراً! أترانى اتشاءم من مصير أمر ما انا ضنين به؟

رب قائل أنى أقسو بل اتحامل على من انقذهم من الشعراء ، ورب قائل " أفظع " من ذلك أيضاً، على إنى لا ألوى ، فليقل القائلون ما يحلو لهم فسيجىء يوم يؤخذون فيه بجمال الحقيقة العارية، الحقيقة التى لاتؤمن بزخرف البراقع وتمويه المساحيق!

وقد يرى القراء فى هذا الماحاً إلى الأخطل الصغير، الشاعر الذى أحبه بالرغم منه ،الشاعر الذى يشك فيَّ لأنى لا امالئه ولا أدجل عليه ، الشاعر الذى أضن به ولا اضن بسواه ممن جازوا مرحلةالشباب وبلغوا إلى شاطئ النضوج ، ودليلى على ذلك إنى لم أقس إلا عليه.

انشد بشارة الخورى فى الزمن الأخير قصائد تذكرنى بالشجرة المنقولة ، أوراقها غلظة وأغصانها وارفة وظلها عريض أما اللذة فضعيفة فى ثمارها، ولوأن بشارة الخورى لم ينشد قبل ذلك قصائد لم يقل عمر أعذب واشجى منها لما حقدت عليه ذلك الحقد البرئ الذى أساء فهمه واساءه كثيرون غيره على إنى أعذرهم ولا أعذره.

ولأعد إلى ميشال طراد ، الشاعر الذى ينشد بلغة إقليم لبنانى ويحس بقلب شاعر كونى، الشاعر الذى يحزر ما لايرى ويسمع ويرى ما لا يسمعه ويراه الكثير من الشعراء المهذّبين المهذّبين، ملفقى المدارس ، ما سخى أرواحهم ، هؤلاء الذين يشعبذون على الألفاظ ، يعربدون بها على غير وجوهها يتلهون يتجزئ الجامعة إلى طوائف شأن مفسرى الأديان على الأهواء الباطلة .

قرأت لهذا الشاعر شعراً مردود النغم واللون إلى الطبيعة التى تدفق منها ففيه ظل الغيمة تنعقد على جبين صنين، وشعاع الشمس يغمر السهول وينزلق إلى الوادى ، فيه كبرياء القمة الصريحة ودعة الربوة على قدمها ، فيه رقرقة الساقية بين الأعشاب والصخور وهدير النهر بين جبلين، فيه كل مافى لبنان الجبل ، فيه صدى الهدوء الوادع الذى لا يقع إلا فى الأذن المصغية عن طريق القلب . ما اندر هذه الأذن فى الشعراء ، فيه أشباح الأكواخ المطمئنة تتخايل فى غبرة المغيب ورماد الفجر وفيه زقزقة العصفور الآمن تصل إليك مع هدرة الطاحون ، وفيه ....فيه شمم الصفصافة ووقار السنديانة ووداعة الدالية ، فيه كل ذلك مغموراً لا أعلم بأية ضبابة من الحنان .

شو بتعمل السنبلة الصفرا بحباتا ودردرلا هنى الطير
شو بتعمل الراهبى بقلبا وشهواتا لا تلومها يا دير

أليس فى هذا السؤال حقيقة صريحة لا تفوح منها رائحة البنج ولا هى مخدرة بالأفيون ، فالراهبة الراهبة التى تعتزل العالم لتنصرف بكليتها إلى تقريب نفسها لله ماذا تفعل بعنصرها الآخر وقد نضج" واصفر" أتبخل به وقد وهبت حتى نفسها ؟ أليس كالسنبلة الناضجة الصفراء تنفرط حباتها لأية صدمة؟ والشاعر ، الشاعر الذى خلق ليعطى نفسه ، ليستسلم إلى الطبيعة التى أبدعته ، أليس كالراهبة ، كالسنبلة ، كتلك المرأة السجينة نضج جمالها حتى اصفر بين جدران صماء كالحة خرساء ساخرة...وقبل أن تذبل فتموت تعرت ونظرت إلى المرآة وسرعان ما شعرت بأنها تمنح كل شئ ولاول شحاذ شقت معطفها ؟..
.
هى دفقة النور جايى حافى تزورك بضعفا وعكاز
وعروسة الحقل جايى تحوش زهورك تتفصل جهـازا

ألم يتفق لك أن جلست فى ليلة قمراء على سطيحة فى الجبل تسرح عينيك ونفسك على لوحة الطبيعة يرسمها القمر ويلونها بألوان تختلف بإختلاف جهاتها ، ألم يخيل إليك فى تلك الآونة انك تسمع النور فى قرارة نفسك يتنقل من ربوة إلى ربوة ومن عطفة جبل إلى عطفة جبل ومن طية واد إلى طية واد متثاقلاً منهوكاً كأنه عجوزاً يتوكأ على عكاز؟

ومالى اختار من قصائد هذا الشاعر ما نسميه أبياتاً وكل قصائده جميله بل ساحرة.

أيها الشاعر الجميل، ما جلست إليك هذه الفترة إلا لأننى أحببت روحك العذبة وخيالك الساحر وموسيقاك الشجية ، ولأنى رأيت صورة صادقة عن جمال هذا البلد فى روحك وخيالك وموسيقاك.

وما اندفعت إلى التشاؤم البرئ إلا لأنى أضن بك ولأنى أريد أن تنضج فى تربتك فروحك صادفت فى هذه التربة ما يوائمها فلا تنتقل بها إلى تربة أخرى خشية أن تعبث بها آفة مشؤومة فتفقدها ذلك العصير اللذيذ.

إلياس أبو شبكة