Articles

Art in the press

الفنانة التشكيلية الفلسطينية بثينة ملحم - تجربة فن كسر حواجز المادة

بقلم بشرى بن فاطمة

إن الثقافة هي كفاح إنساني مستمر يهدف إلى التحرر من أوهام المادة المحسوسة و سحر المظاهر لإدراك الحقائق، و الإستلاء على القوى الخفية الكامنة و احتقار العرض الزائل من أجل الإحتفاظ بالجوهر الثابت بتسخير النزعات الجامحة لخدمة إرادة لا ترضى بمنزلة دنيا لأنها تسعى إلى المنزلة العليا هي تجربة غير عادية كحياة شعب غير عادي و طريقة تعبير مختلفة طوعت المادة المحسوسة إلى حس فني يخفي الكثير من الأبعاد، إنها التجربة النادرة للفنانة التشكيلية الفلسطينية بثينة ملحم، هذه الفنانة التي ترعرعت على فكرة الوطن المغتصب و الشتات و الظلم و الإحتلال الساعي إلى طمس الحقائق و التعتيم على الموروث الثقافي و التاريخ الفلسطيني الذي أبى إلا أن يكون جليا واضحا و بارزا أمام كل العالم في شكله التقليدي الموروث من ناحية و في شكل فني مبتكر و نابع من رحم الوطن من ناحية أخرى كالذي سعت إلى إثباته الفنانة بثينة ملحم.

bouthayna-malham

من المادة العادية إلى الإبتكار الخلاق

بثينة ملحم هي فنانة تشكيلية فلسطينية من مواليد سنة 1961 بقرية "عرعرة"، انطلقت تجربتها الفنية سنة 1995، شاركت في أكثر من 30 معرضا محليا و أكثر من 3 معارض دولية، تعمل بثينة ملحم في مجال الطفولة فهي مركزة للفنون بدار الطفل العربي و مرشدة مؤهلة لعدة مراكز.

تعتمد الفنانة بثينة ملحم في تشكيل لوحاتها على أشياء بسيطة و لكنها ذات أبعاد و رموز عميقة و واضحة تنبع من الواقع الممزوج بإرث ثقافي هائل و فلكلور استطاعت بأسلوبها الإنساني الفني الراقي أن تحميه من الإندثار و عرفت به دوليا، فرحلتها مع الثوب الفلسطيني هي عبارة عن حنين للماضي و الجذور و ما يعنيه الثوب من دلالات، فالثوب يمثل المرأة الجسد الأرض الإمتداد و الخصوبة، لذلك تقوم الفنانة أثناء خلق لوحتها و بلورة فكرتها بقص قطع من الثوب القديم و إلصاقها على الثوب الجديد المزين بطريقة مختلفة و الممزوج بالكلمات العربية المكتوبة بخط اليد و المطرزة،بالخيط و الإبرة انطلاقا من التطريز الفلسطيني التقليدي وصولا إلى تطريز بثينة ملحم الخاص المبتكر و الحديث و اعتمادها على الإبرة و الدبوس و خيوط الصوف و أشرطة القماش و مواد المطبخ الملونة كالشاي و القهوة حيث تغمس القماش في هذه السوائل مما يحدث لونا مختلفا له عدة أبعاد، و مثلما تقسم قطع القماش تقسم المساحات الملونة إلى مقاطع تشكيلية تحيل إلى نهايات غير منتهية فنرى الخيوط تتدلى مع الثوب أو القماش ما يحيل إلى إستمرارية الطريق و المستقبل القادم.

تمكنت بثينة ملحم من خلال هذه التجربة من تفجير طاقات و معان و رؤى و أبعاد و انتظارات كامنة فقطعة القماش هي عبارة عن رقعة جغرافية لخريطة أشرت حدودها بالدبابيس التي عبرت بها عن الحدود المؤلمة و الجارحة فهي تحتج بأسلوب فني نابع من ألم نفسي احتجاجا على تلك الحدود التي تسببت في صراع انساني وحشي غير عادل تجاوزت به جغرافية فلسطين لتقتحم كل العالم، و بتوظيف الكلمة تثير جدليات و تساؤلات و أحاسيس تجمع في خطابها بين الحداثة و الأصالة بين الجذور و الواقع الراهن بين الآباء و الأبناء تربط بين المقولة المؤخوذة من التراث الشعبي و الأحداث اليومية لتتجلى المفاهيم الإنسانية و الإجتماعية و السياسية فالكلمة هي دافع آخر للتعبير عن الحنين الذاتي و الجماعي و حرية فكرية غارقة في التنوع و الإستقلالية و الشرعية في مزج عام بين الفني و الخيالي و الواقعي.

إن ما حققته بثينة ملحم في أعمالها هو في حد ذاته يتحدث عن الكينونة الذاتية و الهوية فالفنانة تطوق أعمالها بكل الوطن و تحتويه كاملا بكل الموروث الفعلي و القولي الذي يثبت تشبثا عميقا بالأرض، و هذه الأشكال ذات الأبعاد الرمزية تخلق نوعا فنيا جديدا هو في حد ذاته ثورة و نضال و تحديد و ديمومة و استمرارية على نفس الخط و الإبتكار الخلاق فهذه الأعمال لا تقدم قوالب جاهزة بل تتعداها لكي تثير ملكة التفكير و المشاعر الكامنة خاصة و أن الخليط و المزيج المختلف الخفي و الداخلي يعبر عن بثينة ملحم، المرأة العربية الملتزمة فلسطينية المبدأ و المنشأ و الأرض و إسرائيلية المواطنة المفروضة كل ذلك تدفق عندها ليتحول إلى أعمال فنية صاخبة المعاني و الدلالات.