Articles

Art in the press

الفنانة التشكيلية اللبنانية عبير اربيد - الأعمال المدمرة شهداء

الفنانة التشكيلية اللبنانية عبير اربيد - الأعمال المدمرة "شهداء" وما هشمته الحرب هم "جرحى" وجراح أكثرهم بالغة الخطورة. كتب وحاور: زاهد عزت حرش.

على مدى التاريخ.. عاثت الحروب بأدواتها شتى أنواع الدمار والقتل والتشريد.. إلا انه على الرغم من كل شيء, كان هناك قليلاً من "الأخلاقيات".. التي استثنت بعضاً من الحضارة والإبداع الإنساني.. لأن ما أنتجته البشرية من حضارات في زمن ما.. إذا ما دُمر فلن يعود. أتذكر في خضم هذا النزيف الجارف, وأنا أتعرف على ما اقترفته هذه الحرب الهمجية من تدمير على ارض لبنان.. أتذكر أبواق السياسات الغربية والامبريالية, صراخاً ونعيق.. على تدمير تماثيل "بوذا" في أفغانستان.. على يد قطيع من الأغبياء!! بيد أنهم الآن لا يبكون على دمار لبنان.. الحضارة والإنسان!! لقد طالت القذائف الهمجية كل بقعة في الأرض هناك.. من بيوت ومتاحف وصالات عرض ونوادي ومحترفات رسم.. لم تبقي هذه الهمجية على شي!! هذه التي تدعي أن عدوها هو "الإرهاب".. تثبت بما ارتكبته من جرائم.. إمام الحقيقة والتاريخ.. أنها رب التدمير والإرهاب!

في لقاء عبر الهاتف.. تحدثت إلى الفنانة التشكيلية اللبنانية عبير اربيد.. وعرفت وتعرفت منها وعليها.. على حالة من حالات التدمير الذي خلفته هذه الحرب البربرية.. وتكشفت لمسامعي صور أكوام الردم والتراب الممزوج بعرق الناس ودموعهم.. ودمار الكثير من الأعمال الإبداعية لعدد لا بأس به من الفنانين التشكيليين اللبنانيين.. وهذا اللقاء هو واحد من سلسلة لقاءات سنجريها معهم.. على مدى الأسابيع الآتية.. وأتمنى أن تكون هذه بداية للتواصل فيما بيننا.. من اجل غدٍ اقل حزناً ودماءً وبكاء!!

كشفت هذه الحرب الإجرامية همجيتها وأبعادها الحيوانية.. بان قتلت الطبيعة والبشر.. وقتلت الحضارة أيضاً.. فما هو نصيب الفنانة التشكيلية اللبنانية عبير اربيد من عاصفة هذا الدمار؟!

تقول الفنانة رداً على ذلك.. "نعم .. قتلت الحجر والبشر.. وكل ما تطرقت إليه أنت أيضاً.. إلا أن قلوبنا ما زالت تنبض بالحياة. كل شيء حولي تدمر.. دمروا كل ما املك.. البيت والمحترف. فانا من سكان الضاحية الجنوبية.. لقد دمروا بيتي واحرقوا محترفي وضاع كنز العمر.. وكل ما أنجزت من أعمال على مدى سنوات طوال.. كان هناك أكثر من 200 عمل تشكيلي, كلها دمرت! وسقطت كما يسقط "الشهداء" مخضبة بدماء ألوانها.. وما تبقى منها هم "جرحى" جراح أكثرهم بالغة الخطورة.. البعض منها لا يمكن شفائه أو ترميم صياغته اللونية والتشكيلية.. لأنها مهشمة وشبه مدمر كلياً."

عندما عادت الفنانة عبير إلى ضيعتها بالجنوب.. على بعد 3 ساعات سفر من بيروت.. وجدت أمام باب بيتها هناك.. الذي طاله التدمير ونيران الحرب الهمجية.. وجدت بين تلك الأشجار والأزهار المحروقة.. برعم صغير شق طريقة من تحت الرماد وما تبقى من تراب.. مما ذكرني بمظفر النواب قائلاً "تعال اريك الربَ على اصغر برعم ورد يتضوع من قدميه الطيب".. هنا وجدت عبير ضالتها للخروج من "سجن الذات المدمرة" لتعود إلى الحياة بعزيمة وإصرار وتحدي.. تحدي الإنسان والفنان القادر على خلق واقع يتجدد ويتواصل مع الحياة.. لان الحياة بقاء أقوى من العدم.
تسترسل في روايتها "إن ما نتلقاه عبر الفضائيات من أخبار عن القتل والتدمير.. في غزة وفلسطين والعراق.. حَوّل مشهد الموت والبؤس والدمار إلى مشهد يومي مألوف وعادي!! أصبح لون الدماء كأي لون أو أي شيء عادي آخر!! بيد انه من المفروض أن يلتقي الإنسان في بداية يومه, مع الفرح والجمال والطبيعة.. كيف لنا أن نستمر في حالة التفاؤل الإنساني في حياتنا اليومية.. ونحن نرى هذا القتل المتكرر كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم؟؟!"
كانت المأساة حالة إخبارية تأتي إلى بيوت الناس في ربوع لبنان الناهض من جراح حربه الدامية.. إلا أن هذه الحرب الإجرامية القذرة حولت لبنان.. كل لبنان.. وخاصة, تلك الأماكن التي طاولتها اذرع التدمير والخراب.. حولتها إلى لب المـأساة, لتصبح حجز الزاوية في معادلة هذا الصراع الممتد لقرن من الزمان.. ويزيد!!
"هذه هي المرة الأولى التي أتحول فيها من مشاركة في التعبير عن مشهد للتحدي, تضامنا مع ما يحدث في فلسطين والعراق والعالم.. لأكون أنا هي المشهد الآن.. وأنا هي الجزء الحي من الكارثة!! ألآن أنا هي الحطام والدمار والنزيف.. ولا استطيع آن أنجز أي عمل فني.. لأنني أصبحت حالة هذا العمل.. فهذا المشهد المروع من القتل والتدمير.. تراكم في أعماقي.. وخُزِنَ في داخلي بكل ما فيه من صراخ وبكاء وتحدي وصمود.! إلا إنه في لحظة ما سينفجر ألوانا وأعمالاً صارخة بوجه هذه القذارة والإجرام البشع." تقول اربيد

تتراكم المفردات والحالات الحسية والبصرية في أعماق الفنان وتعيش معه.. وفي سياق ذلك تتوالى عمليات الخلق والولادة أمام كل مساحة بيضاء, وأمام كل صخرة صماء. تولد من خلال رقص وهذيان إبداعي نثرات خالدة. كيف يمكن للحظة الميلاد.. أن تعود؟؟ أن تتوالى بداية ما كان قد بدء وأنجز أصلا؟! كيف بعد هذا التدمير, وهذا الركام البشري المجبول بالتراب والدموع والدماء.. كيف له من خلق ميلاد إبداعي معاد؟؟؟

تقول عبير اربيد.. "لا يمكن للميلاد أن يولد مرتين.. هو حالة خلق أزلي واحد مطلق في وحدانيته!! من الصعب بل من المستحيل إعادة انجاز عمل فني أنجز فيما مضى!! أنا ارسم حين أعيش حالة ما.. بتأثير ما.. لا يمكن للإنسان إن يستحضر نفس المشاعر والأحاسيس والإثارة!! كانت يدي تمشي بشكل تلقائي وطبيعي كأنها تعيش الحياة. كنا هنا محاطين بالأهل والأحبة والأصدقاء.. نمارس حياتنا باطمئنان وأمان.. نتفاعل مع واقعنا.. ونعالج ماضينا.. نعيش إرثنا الحضاري المتوارث منذ آلاف السنين. الآن نحتاج لألف سنة كي نعيد بناء ذواتنا من جديد"
هنا على أكوام الحطام والدمار.. في مسامات الحجارة يكمن بعضاً من حزن الناس وأحلامهم وأمالهم ودمعهم وأفراحهم. بيد إن هذه الحجارة لا يمكنها أن تروي قصة هؤلاء.. ولا تملك في ذاتها أي من مقومات التعبير.. فما هي إلا أتربة مجمدة جافة, لا تملك أي من مقومات حياة البشر!! "من أين لهذه الحجارة أن تملك الوسيلة لتحمل في أجزائها وجوه الأحبة, ولمسات عيونهم وذكريات أيامهم الجميلة.. من أين؟؟"

تضيف عبير من هول ما يختزنه القلب من مرارة وبؤس وحزن عظيم.. "إذا ما أعطاني الله عمراً لحياة آتية بعد.. فستكون هناك ولادة فنية جديدة!! لقد اكتشفت من هول هذا الانهيار.. أن اللوحة والمقطوعة الإبداعية.. أي كانت.. ما هي إلا حالتنا وقصتنا.. وبواسطتها نقاوم.. ونواجه.. ونتحدى العالم"

هذه الأعمال المدمرة قد نالت الشهادة أسوة ببني البشر.. "إن من استشهد لا يمكنه أن يعود.. لكنه باقٍ بعطر ذكراه ودمائه التي روت ارض لبنان الحبيب.. وهذه الأرض لا تحتاج إلى ماء بعد اليوم.. فهذا الإشباع الدموي.. واللوني الإبداعي.. وهذه الأعمال التي حملت ذواتنا وإحساسنا وذكريات أيامنا.. ستعطي لهذه الأرض ما لم يعطيه كانون في أوج شتائه.. وستنبت مع الأيام محاصيلاً من الحب والخبز والحرية!"

هو لبنان.. لبنان "أيها الأغبياء"!! هو جبران ونعيمة وفيروز.. وتاريخاً من الحضارة والغضب.. وهو مصطفى فروخ ووجيه نحله ورفيق شرف وهيلين الخال و فاتح المدرس.. وقائمة ملئ الزمان من المبدعين, تشكيلاً وموسيقى وشعراً وأدب.. وهو النار واللهب.. على أرضه أيها الأغبياء.. على أرضه انتصر العرب!!

في هذا الانصهار.. للإنسان والطبيعة والكيان!! تقول الفنانة عبير "سقطت كل المقولات القومية والفردية والذاتية المفرطة.. سقطت!! وتعمق التواصل الإنساني والاممي بين بني البشر!!" تقول عبير وتتابع "لان الإحساس متواصل كوننا أناس وبشر, فالفن هو الطريق لهذا التواصل, وهو أداة فتحت كل الأفاق بمتسع فضاء الكون.. حتى ليكاد إن يشمل في رحابة كل الدنيا"..وتقول أيضاً "أنت بالفن تتخطى الحدود الإقليمية والمكانية لتتواصل مع بني البشر, مع الحضارات, مع الثقافات.. حين تحمل في إبداعك الذاتي ما يمكنه أن يخدم الإنسانية وقيمها الخالدة".
للفن مهمة كبرى ومساهمة لها دورها في إعادة الفرح والسعادة إلى الناس.. وفي ذلك تستطرد قائلة "وعليه مهمة إسعاد الطفولة المهشمة المدمرة.. وعلى الفنان مسؤولية كبرى في هذا السياق.. في أي من أنواع العطاء الإبداعي.. عليه إعادة بناء الذات الجماعية.. وإعادة الإيمان بالقيم الأخلاقية للإنسان!!"

"هذا الدمار ألبنياني شرعنا منذ اللحظة ألأولى في إعادة إعماره.. المشكلة ليست في ترميم بنية الوطن.. المشكلة في ترميم البنية الإنسانية.. للفرد.. للإنسان.. وللفنان والمبدع أيضاً.. نحن الآن نعيش حالة من العدم لا نملك أي شيء.. فكيف نستطيع أن نمارس حياتنا بشكل عادي.. هناك الكثير من المؤسسات التي تدعونا لممارسة دورنا الإبداعي.. أي أن نرسم فوق الركام.. أن نقوم بعمل أبداعي ما.. هم يعدون لنا المواد الخام.. من ألوان وأقمشة وما يلزم.. بيد أن المشكلة ليست بتزويدنا بالمواد.. نحن نحتاج إلى شيء من الأمان.. أنا لا املك بيت الآن.. أعيش مشردة هنا أو هناك.. ولا املك القدرة في هذه الأحوال على ممارسة الرسم وانجاز أي شيء!! لنقول العبارة بصراحة لا لبس فيها.. لا يكفي أن يكون هناك دعم معنوي.. مع انه أمر ضروري طبعاً.. إلا أننا أيضاً بحاجة لدعم مادي. نريد أن تعود بيوتنا ومحترفاتنا كي نعود لممارسة حياتنا ولو بشيء من الاستقرار اليومي والحياتي. علنا نستطيع عندها أن نرتب ذواتنا النفسية والوجدانية, حتى نعود لممارسة دورنا الإبداعي ونكمل المشوار"

هو لقائي الأول بفنانين لبنانيين, بعد اللقاء الذي أجريته مع الفنان د. يوسف غزواي.. الذي دُمر محترفه هو أيضاً. وكي نستطيع أن نتعرف على ما يجول على الساحة التشكيلية في لبنان, تطرقت في حديثي هذا مع الفنانة عبير اربيد إلى أمور أخرى. هي حول ماهية وجدلية العلاقة ما بين الفنون التشكيلية والناس.. وهل يتمكن الفنان التشكيلي اللبناني من الاسترزاق من مهنته كفنان.. وهل هناك من تسويق لأعمال الفنانين اللبنانيين.. والى أي مدى يستطيع الفنان أن يعيش من مهنته؟؟

تعترف عبير بان الدور الأهم في مسيرة استقرارها ومشوارها الفني كان لعائلتها.. ألا إنها أيضاً استطاعت أن تقتحم ساحة الحياة.. وتثبت دورها بواسطة ما أنتجه من أعمال فنية. فان مشاركتها في كل ما تدعى إليه من نشاطات وورش فنية على الصعيد اللبناني والعربي.. وخصوصية ما تنجزه من عمل أبداعي, قد أثرى مسيرتها الفنية وجعل محبي هذا النوع من الفنون.. أولئك الذين يمتهنون مهنة اقتناء الأعمال.. أن يبحثوا عن أعمالها.. كثيرون هم الذين جاءوا إليها عن طريق أعمالها.. وليس من باب التعارف الشخصي.

تقول عبير حول ذلك "أنا لا ارسم أعمال تجارية.. إن نوعية أعمالي لها خصوصيتي وشخصيتي وذاتي.. وقد تمكنت من أثبات ذلك حقيقة.. إن قضية اقتناء الأعمال الفنية من قبل أناس لهم رغبة في ذلك.. لا يمكن أن تكون مقياساً عاماً لكل الفنانين.. هي قضية فردية تقاس بمدى قدرة هذا الفنان أو ذاك على إيصال فكرته الفنية وأسلوبه ورسالته إلى المتلقي.. واعتقد أنني استطعت أن أصل إلى أماكن ذات أهمية خاصة.. وأعمالي تحتل مساحات هامة من حيات مؤسساتنا الوطنية في لبنان".

درست الفنانة عبير اربيد في الجامعة اللبنانية ببيروت.. وحصلت على إجازة الدبلوم في الأدب العربي.. على دبلوم الدراسات العليا في موضوع الرسم والتصوير. لها 19 معرض فردي, منهم 9 معارض في لبنان, والأخرى في العالم العربي.. وفي سوريا بالتحديد. تنتشر أعمال الفنانة اربيد في العديد من المؤسسات الوطنية.. ومثالاً لا حصر.. ففي متحف قانا لها هناك جدارية.. وجدراية أخرى في القصر الجمهوري وأخرى في القصر الحكومي.. كما وتملك دار "الأسد" في الرقة وفي الثورة (في سوريا) أعمال للفنانة عبير.. وفي العراق لها العديد من الأعمال التي تم اقتنائها من قبل مؤسسات وطنية قبل العدوان الأمريكي على العراق.

في بيان لجمعية الفنانين التشكيليين اللبنانيين, الذي وزع على وسائل الإعلام منذ أسبوع.. دعت الجمعية كافة الفنانين إلى المشاركة في مسيرة التحدي الذي يلعب الإبداع اللبناني دوراً هاماً فيها.. حيث يقام "معرض فوق الركام" وهو عبارة عن مشاركة الفنانين اللبنانيين بأعمال منجزة لديهم.. ممن تعرضوا لتدمير محترفاتهم ومن غيرهم من الفنانين.. كصورة لتحدي هذا الدمار.. بان يقام هذا المعرض على ركام الحرب المدمرة تحدياً وتعبيراً عن الصمود ومتابعة الحياة.. وتعقب الفنانة عبير حول ذلك بقولها "ميدانياً.. هناك يومياً مشاركات فردية شخصية من فنانين من أعضاء الجمعية ومن غير أعضائها أيضاً. هناك العديد من الفنانين الذين جاءوا إلى الضاحية, ويرسمون على ركام الدمار وجدران البيوت المنتصبة! إن هذه الحالة من التحدي بدأت بعد وقف العدوان مباشرة.. وهي حالة يومية متكررة, لا يحتاج الأمر إلى ترتيبات خاصة.. كان الدافع الوطني والإنساني هو المحفز للفنانين للقيام بهذا التحدي.. وهي بمثابة إعلان صادق عن الرغبة في العودة إلى الحياة."

"سأشارك" تقول الفنانة عبير.. "لأنني انتمي إلى الجمعية.. وانتمي إلى زملائي الفنانين التشكيليين.. وانتمي إلى هذه الحالة العبثية.. وانتمي إلى الوطن.. وانتمي إلى هذا الموقف بالذات!! وأجمل ما في هذا الموقف وهذه الحالة أنهما صورة عن وحدة الفنانين التشكيليين في تحدي هذا الدمار".

"الحقيقة أنني تواجدت منذ اللحظة الأولى هناك.. فهناك بيتي ومحترفي وذكرياتي وتاريخ الواني.. ولا زلت أتواجد هناك كل يوم تقريباً..إلا إني لا استطيع الرسم..أنا أحس بنوع من الصراخ في داخلي, في أعماقي, لكني لا استطيع التأمل والرسم.. ولا اعرف حتى الآن كيف سأرسم!! من الصعب عليّ أن ارسم فوق الركام.. لان هناك كثير من الركام والدمار في داخلي أنا أيضاً.!! استجمع الركام فوق الركام.. والغبار فوق الغبار في أعماقي.. ولست ادري متى وأين وكيف سينفجر!!"