Articles

Art in the press

شبلي الشميّل بقلم الدكتور جورج شبلي

ما أروعَ أن يُصَوِّرَ مَن رُزِقَ من رقّة الحِس ودقّة الفَهم وقوة الإدراك، الظالِمين الجاهِلين بما يلي:

هؤلاء لا يَظهَرُ من إنسانٍ منهم لِأَحدٍ حِفاظ، فقد باعوا الدِّين والمُروءة، وتَعاطَوا الرِّياء بالسَّمعة والنِّفاق، وأَتَوا ما لا يُحسِن الحُرُّ أن يَرسمه بالقَلم...

شبلي الشميِّل كان ذلك الحُرّ الذي شَذَّ عن القاعدة، فلم يكن مُحرَجاً في رَسم الذين عاش الضّمير معهم في نِزاع، والخُلقُ في صراع، والكرامة في تَقَهقُر، والإباء في قَهر ومَشْيٍ على الأشواك. والظّالِم الذي نَدّى عنه المَلَق والمُداهنة، أضرمَ في نفس الشميّل ثورةً على المُخزِيات والضِّعَة التي شكّلت وَجهَ أصحابِ التّيجان، والذين لا يُزهِقُ فيضَ ما لديهم من خِسَّة وإسفاف إلاّ مَن كان أَهجى من إبن الرّومي والحُطَيئة. وقد سرى كلامه المُقذِع بأشدّ من مَسرى تَنَحنُحِ المُضيف إذا كُسِرَ الرَّغيف، لكنّ الشميّل المُكَشِّر عن هجائه الأَفضَحِ عِبرة، ما كان إلاّ حائِكاً عَقدَ الطَّلاق بين الظّالم والمظلوم، لِيُجهِضَ اعتبار هذا الأخير مَولوداً في بُرج النُّحوس.

الإنسان مع الشميّل، وهو أَرقى ما وصل إليه تَدَرُّج الكائنات في طريقها التَّسَلسُلي عَبر الزَّمن، " دينُه السَّلام لا الفِتَنُ ". من هنا، دافع الشاعر المُفَكِّر عن صيغة العلمانيّة التي وجدها حلاً لنزاعٍ طويل قام بين السياسة والدِّين، فالدّين لم يُنتِج في السياسة إلاّ الفِتَن، لذلك وَجَبَ فَصلُه عنها. هذا الصّراع الذي جعل الإنسان، لا سيّما العربيّ، لَهَباً دَأبَ على تأجيجه القَيِّمون على نظامٍ ثيوقراطيّ مُستَغَلّ. وقد أراد الشميّل أن يُلاحم صُدوعَ هذا الإنسان، فنازعته فيه نفسه بالمَحظور، لكنّه تابع نضاله ليُثبِت أنّ النَّظام العلمانيّ هو الظِلّ الرَّحب، والذي إذا ما افترشه العربيّ سيجد فيه النِّعمة، بعد نَفاد زاد صبرِه من القاتِلَين: الظّلم والتَّخَلّف. لقد وجَّه الشميّل بَصَره الى الإنسان المشرقيّ، فوجد أمامه كائناً مجروح القلب ومَقتول النَّفس ومَطعون الوجدان، تُذَلُّ كَرامتُه ويسودُه المُفحِشون الذين يَحشونه تَعَصُّباً. والغريب أنّ هَدمَ بُنيان هذه العصابة التسَلُّطيّة لم يكن بالأمر السَّهل، إذ يتدحرج عنها لاذِع القول كالماء من المكان العالي.

شبلي الشميّل الباحِث المُثَقَّف، قدَّمت لنا أبحاثه رَجُلاً فَهِم النَّزعات الفكرية والعِلمية في عصره، وصوّرها بنتاجه بما يقربُ الإتقان. شبلي الشميّل الذي كانت نَكهته داروينيّة، عَدَّه كافِراً بعضُ المُتَطرِّفين، لأنه نادى بالعلوم الطبيعية سبيلاً وحيداً لِفَهم أسرار الكون. لكنّنا، وبالعودة الى الفقه الفكري وقانون النِسبيّة، نجد أنّ العِلم الطبيعي والفكر لم يتعارَضا مع جوهر الأديان إستراتيجياً، وإن اقتضى التأويل في بعض الأحيان لإزالة اللَّغط الذي رافق أَلبابَ بعضهم في التَّفسير. فَكُنهُ الفكر والإيمان والعِلم هو واحد، استناداً الى وحدة الحقيقة، لكنّ الإِشراك الذي أطلقه المتطرِّفون من أَشراكهم، حتَّم البُعاد بينها ومزَّق إمكانية التَّقاطُع الصَّريح. واستناداً الى بعض المواقف والنظريّات التي حَسِبها المُتَطَرِّفون تنطوي على شيء من الكفر، ومنها أنّ أَصل الكَون مادّة، وأنّ التطوُّر يعود الى قوّة كامِنَة فيها، اعتبر هؤلاء أنّ الشميّل أَقدَمَ على إعلان إِلحادِه، فهاجموه بضراوة. لكنّ الحقيقة أنّهم لم يتَّفقوا على التَّعريض بالشميّل دفاعاً عن الدِّين، بقَدر ما كانوا يدافعون باسم الدِّين عن الجهل والإستبداد والفساد، والتي تشكّل أرضيةً خصبةً لمصالحهم.

أما الشميّل الدَارويني في "فلسفة النشوء والإرتقاء"، فبدا المُدافِع الكثير الوطأة عن حتميّة التطوّر في التاريخ. لذلك، كان من أنصار النظريّات الجديدة التي ذاعت في أوروبا مع الثورة الفرنسية خصوصاً، والتي حتَّمت النقلة التطوريّة كمِفصَل أساسيّ في تاريخ الحضارة الإنسانية. من هنا، ولمّا كانت هذه المبادئ تشكّل فردَوساً لفكره، حرص الشميّل على توجيه النَّقد اللّاذع للذين غفلوا عن أنّ الحياة وَجهتُها أماميّة، فقبعوا في كهوف الماضي. فالثورة بالنسبة إليه هي حركة حتميّة نضاليّة لا بُدَّ منها، وذلك للإنتقال بجرأة من التَحَجُّر المُستَنقَعيّ الى التَّغيير والتَّطوير، وبالتالي لتحقيق قفزة نوعية في سيرورة الحياة الإنسانية.

إنّ طلائع النَّهضة، والتي اعتبرها الشميّل أصلَ العالَم المُعاصِر، وإن كان إزارُها مُخصِباً، لم تكن بالنسبة للتقليديّين الذين شَكّكوا بجدواها، إلاّ بِدعةً ثورية مَمقوتة، لا تُرضي النَّاظِر ولا تَروي الخاطر، فلم يَمَلّوا من الطَّعن عليها. لكنّ النهضة، في مفهومها الحضاري الذي تبنّاه الشميّل، تعني الولادة الجديدة، أو الجِراحة التجميلية لواقعٍ ينبغي أن يكون مستعداً لها، بعد أن تشعَّبت فيه طارِئات الإنحطاط المُؤذِية، أو الموت الأَسوَد. فبالرّغم من العوارض التي حالت بين ناس الشَّرق الذين عُوِّدوا على العِياذ بالفكر الرَّجعي، وبين أنوار العقول، انتصرت أصواتٌ إنتفاضويّة، وحَلقُ شبلي الشميّل من مُطلِقيها، بأن تكون جِياداً راكضة من شأنها أن تَدوسَ زمن هولاكو ومَشاهدَ دائرة النّار. وقد احتاجت هذه الأصوات الى الزَّواجر والمواعظ، ليَفيئ أهل الشرق الى ما فقدوه من حقِّ مُواكبة التقدُّم ومَسالك الإرتقاء الذي يراه الشميّل " ضرورة حتميّة ". ويعود الفضل في ثورة الشميّل النهضوية الى تَوق نفسه لِصُبحٍ واعِد حضاريّ، كما يعود الفضل في فصاحة الحَجّاج الى ما كان يَضطرم في نفسه من ضغينةٍ على أهل الشِّقاق في العراق.

إنّ الرَّجعَوِيّين الذين يُؤمنون بأنّ الإنحطاط كان بِسَبب انحراف الشَّرق عن الأُصول، وبالتالي فالنَّهضة لا تكون إلاّ بالعَودة إليها، يوجِّهون تهمةَ التَّغريب لشبلي الشميّل. بمعنى أنّه تَمَثَّل الغرب في التَّحديث ونادى بمُجاراته، واعتبر أنّ الأخذَ عنه هو السَّبيل الأوحد للنُّهوض والتحرُّر من الجُمود والإنتقال بالمجتمع المُتَأَخِّر الى حيثيّات التَّقَدُّم. والمجتمع الشرقيّ لم يَرَه الشميّل سوى جَسَد مريض تحكمه أنظمةٌ فاسدة، تُكَرِّس أوضاع القَهر والظّلم والعبودية، وتسحق في الناس حقوقهم وشجاعتهم ليظلّوا خاضِعين لها على مَرّ الأيام. من هنا، يُطرَح السؤال: كيف يمكن لأنظمة كهذه أن تدوس على سلطانها ومصالحها، وتُحَفِّز الناس على الحرية والعدالة والتَّعاون الذي جعله الشميّل " ناموس المجتمع الأَعلى " ؟ فإذا كان علاج العِلَل مُستحيلاً من جانب المَعلول نفسه، وَجَب ساعتئذٍ استيراد الدواء من غير المعلول، خصوصاً إذا كان هذا الغير قد جَرَّب الدواء وشَفِي.

أمّا النّظام الأمثل بِنَظر الشميّل، فهو الديمقراطية أو نظام المواطنين جميعاً، والذي يُمثّل " أَقصى ما يُمكن للبشر إدراكه ".

فالنّظام الديمقراطي وحدَه يؤَمِّن حُكم الشَّعب وخَيره العام، ويحقّق التَّساوي في الحقوق والحريات، ويُمَتِّن سيادة القانون، ويساهم في نقلة نوعية صوب رَكب المدنيّة. والديمقراطية، أي التَّعبير الصَّريح عن إرادة الشَّعب، هي وحدَها تعني الإرتقاء في الإصلاح، مُستَهدِفةً المعتقدات البالية " ليقفز معها التطوّر قفزات سريعة واسعة".

وبعد، وبِغَضّ النَّظر عن المواقف المُتضارِبة من طرح شبلي الشميّل في الكون والموجودات، لا بُدَّ من الإعتراف بأنّه كان رائداً بفكره النَّهضويّ التَّنويري الجريء.