Articles

Art in the press

البحر، ملهما للفنان التشكيلي - بقلم احميده الصولي - عمان للفن كانون الأول 2006 - عدد رقم 138

كيف يمكن التعامل مع موضوع نصفاه يناقض كل منهما الآخر ؟ كان هذا نقطة البداية لتبين ماهية الموضوع ومحاولة الجمع بين شقيه لتكوين وحدة يتكاملان فيها، ويصبح التناقض امتدادا أو تطورا. فالبحر سمته الحركة والتحولات، في حين أن سمة الرسم هي الثبات. ولأن البحر سابق للفن، فلعل السؤال يكون : كيف تولد الحركة من السكون ؟ وكيف يلد الثبات من التحولات ؟ ولسنا هنا بصدد البحث عن معجزة للوصول إلى جواب مقنع، أولم يقل بروتاغوراس من قبل: "الإنسان مقياس كل شيء " ؟ فالإنسان هو مصدر الحركة والسكون، ومصدر التحول والثبات. وإذا تذكرنا أن الفنان إنسان موهوب يسمو على العادي، قادر على تنظيم الفوضى وبالتالي فهو قادر على تحويل التناقض إلى تآلف، ينتهي الإشكال ويلوح الامتداد والتكامل، وهكذا يتأكد أن الفنان هو صاحب المعجزات الإبداعية.

حين علمت بموضوع الندوة لم أفاجأ كثيرا، ذلك أن البحر يمثل مصدر إلهام للعديد من الفنانين، وبالتالي فإن ورشات هذا المهرجان يمكن أن تتحول إلى بحار ومحيطات تتجسد فيها مشاهد لحالات البحر في كل ظروفه وتقلباته. ولم أكن لأبحث عن موضوع للغرض، لأن البحر كان ولا يزال ملهما للمبدعين، سواء في الفن التشكيلي أو الشعر أو السنما.... لذلك ارتأيت أن تكون مداخلتي بعنوان : "البحر ملهما للفنان التشكيلي".

sea_artist

الفنان المبدع إذن هو إنسان أولا، ولأنه كذلك فلا شك أنه في تفاعل مع الكائنات الحية ومنها هذا الكائن الرهيب، المتقلب أعماقا حينا، والهادئ سطحا أحيانا ، والحامل لأمارات الرهبة وعلامات الاطمئنان. فمن منا لم يشاهد البحر في أوضاع مختلفة ؟ حالات الهدوء والاضطراب، حالات المد والجزر، حالات الانشراح وحالات الغضب ؟ وفي حالاته المشرقة، ألم نشاهد تعدد ألوان الطيف كيف تتراقص على سطحه؟ ولكن، ألم تنعكس السماء بسحبها على البحر فتصبح أعماقه مظلمة وتلوح على سطحه بقع كأنما هي مواقع على خارطة تحمل دلالات بعينها ؟ ومن راقب ظهور الشمس أو اختفاءها على صفحة الماء، فلا شك أنه رصد تعدد الألوان وتغيراتها، وفق تدرّج الضوء وتغيراته، منعكسا على الماء. أما وحشة الأعماق فإنها حتما تجسدت أمامنا ذات شتاء، أو ذات حادث أو حتى في أحد الأشرطة الوثائقية، والموج يرتفع إلى الأفق. إضافة إلى ما تختزنه الأعماق من مخبآت : ضحايا وأمتعة وتلوث، وأيضا من نبات وأشجار وحيتان عظيمة حية تارة، وأخرى ميتة يلقي بها البحر أحيانا على الشاطئ. أليس البحر مصدرا من مصادر الحياة بما يحتوي عليه من الغذاء والطاقة وما يتيحه من الراحة والغبطة والانشراح ؟ وفي المقابل، أليس البحر مصدرا لانقباض النفس والقلق والتشنج والخوف والأهوال الرهيبة حتى الموت ؟ فلندع البحر وحالاته المتناقضة، ونشرع في تتبع آثاره في مهده الثقافة الغربية (القسم الأول) ثم نتحسس صداه في الثقافة العربية من خلال مبدعين تونسيين (القسم الثاني) من هذه المداخلة.

القسم الأول
رسم البحر في الثقافة الغربية

1- تقديم
يتخذ رسم البحر إذن مظهرين اثنين، تتجمع فيهما مختلف التفريعات الأخرى. هذان المظهران هما : التزيق والإيهام. وقد جاء رسم البحر بعد رسم المشهد والبورتريه والطبيعة الصامتة في الرسم المسندي الغربي، فكان ذا عناصر خاصة تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا، حيث شدّت الحروب البحرية وتطور الملاحة التجارية اهتمام المبدعين والهواة إلى البحر.

'هل يمكننا رسم البحر ؟ لا أقصد سواحله وأمواجه وسماواته المتغيرة ومستحميه وسفنه وإنما الامتدادَ الأزرقَ لسطحه، الذي يبدو أن قدرته على الإغراء تكمن في ما يخفيه أو يعكسه، أي في حالة الاختفاء نفسها. كيف نرسم، بدلا من المشهد الرائع الذي يجود به علينا انطلاقا من ضفافه، الإحساسَ الأوقيانوسيَّ بعرض البحر، أو بأحلام اليقظة التي نعلل بها أنفسنا بخصوصه ؟ فعلى سطح البحر، يتجاذب الداخل والخارج مثلما يتجاذبان في ملامح شخص ما، يتحادثان، يُمغْنط أحدهما الآخر ويتّصلان. فالعمق نفسه يتصاعد ويضطرب، وصولا إلى الإهاب الوهمي للأمواج. وباتجاهه أيضا تنزل السماء وهي تغمره بنورها.

ولكي نتمكن من رسم البحر علينا إذن أن نثبت قدرتَنا على الإلمام بهيئته، وسهولة حركته، وحالاته النفسية، إن لم نقل الحلم المنتشر لهذا النسيج من الماء الأزرق الذي تنعقد حبكته في جزئه الأسفل. وحيث يجري لمعان الشمس مثل خيط... إن الرسم، كما هو معلوم، هو أوّلا وقبل كل شيء قضية جمود وتأطير وهيئة شاقولية، وهو عكس ما عليه عرض البحر تماما الذي يبدو أفقيا ولا متناهيا.. ولكن هذا لا يعني، مع ذلك، أنه لا يقدّم لنا سوى نافذة من الزرقة وجزء مخيّبٌ للآمال وخادعٌ، بل يحق له أن يدحرج سطحه بعناية لإدراك الإحساس بالعظمة نفسها فوق فضاء ضيّق الذي هو مساحة اللوحة.'

إن بعض الفنانين يدربون أنفسهم على رؤية الطبيعة نفسها، كعمل فني. فهذا موريس ستيرن بعد أن شاخ وخلف وراءه عمرا من الصور الأميـنة التفاصيل، جرب هذا الأمر فوُلد من جديد كفنان خلاق. وقد حدث ذلك كما يلي : كان ذات يوم جالسا يستريح، وهو ينقِّه أمام بيته في 'كيبْ كود'، وكان ينظر إلى بعيد، عبر المحيط الأطلسي بمياهه الخضراء البيضاء والريح تلفعها، وإذا بنورس يحط من عَلٍ فيراه. فكَّر ستيرن : هذا الأبله! سيلطخ جناحيه بالأصباغ!

2- شيء من التاريخ
كجنس مستقل، فإن الرسم البحري تم تعريفه شيئا فشيئا في الفن العربي، بعد المشهد تقريبا، وأيضا بعد رسم الوجوه والطبيعية الصامتة. لقد نما واتسع مع ذلك، ضمن نفس التطور – أي ولادة لوحة المحمل- اهتمام متزايد بالمواضيع الدنيوية، تضاف إلى ذلك عوامل نوعية، ذات طبيعة تاريخية، واجتماعية واقتصادية : الحروب البحرية (ومن قبل الحروب الصليبية) والاكتشافات وازدهار البحرية التجارية وغيرها هي التي وجهت انتباه الهواة والفنانين إلى البحر.

كان البحر عند فناني القرن الرابع عشر الإيطاليين عموما، مجرد ديكور، يُشار إليه برسوم تخطيطية لتحديد واقعة من التوراة، أو من حياة القديسين . ويمثّل أ. لورنزتّي استثناء في لوحته: "هذا المشهد من حياة سان نيكولا" حيث يخصّص الجزء الكبير من اللوحة إلى البحر، عليه تتدرج القوارب إلى أبعد نقطة، ولوحة "المدينة على شاطئ البحر" التي هي من غير شكّ أحد المشاهد الطبيعية الأولى في الرسم الأوروبي، وكانت في نفس الوقت، أول المشاهد البحرية التي وصلتنا. لكن هذا التجديد الشخصي بالكامل لم يلق صدى لدى المعاصرين له أو منافسيه. وكما هو الشأن بالنسبة إلى الرسم الشعبي (رسم النوع) والطبيعة الصامتة، فإن الرسم البحري نشأ في الـ Flamands (فلمنكي أو فلمندري) وبفضل Van Eyck في لوحة بعنوان : "ساعات توازن" نلاحظ رسم البواخر الجانحة على الساحل الرملي حيث تتدفق الأمواج، والدردور يرج قارب سان جوليان St Julian، بأنها تظهر حساسية، وانتباها لأشياء البحر التي سيتبناها رسامو البحرية الهولنديون حيث تمت صياغة النموذج الذي به سيتم تجاوز المرحلة الأولى الحاسمة في تحديد النوع وهو هنا : المشهد النهري .

وفي إيطاليا تبنّى عدد من الفنانين المشهد النهري، في حين اهتم ليوناردو دي فنتشي بتكون المياه، وصخب الأمواج والمد والجزر باعتبارها ظاهرة طبيعية، وفضل رسامو البندقية الأفق البحري كما نرى ذلك عند كرباشيو (سيرة القديسة Ursule) وبلليني، الذي أُعجب Vasari بلوحته "معركة بحرية" للاسلوب الذي عبر به الرسام عن الدراما المائية حيث الأمواج تحت جآجيء السفن الشراعية الحربية.

لكن اللوحات البحرية بالمعنى الدقيق ظهرت في هولندا مع كورنليس أ. الذي رسم أسطولا برتغاليا جاهزا للإبحار (متحف غرينويتش) ولوحة "العاصفة " مع بروغل الأول l'Ancien (متحف فيينا). كما تدخل أيضا رسامو التاريخ، Vermeyen نحو 1535 مع لوحته إنزال شارل كانت Charles Quint بقرطاج في بداية القرن السابع عشر. لقد أثر ذلك في جيل كامل من الفنانين وخاصة الأخوان Van de Velde.

تزامن أوج الرسم البحري، في نهاية الأمر، مع رسم المشهد الخالص في الرسم الهولندي الذي برز فيه فنانون كبار . ثمة هولندي آخر هو بول بريل Paul Bril، استقر بإيطاليا قبل 1700، وقد نقل صدى تجربة بروغل إلى المشهديين الكلاسيكيين ؛ ووانتقلت بواسطة تلميذه أغوستينو تاسي Agostino Tassi, ، إلى كلود لوران Claude Lorrain. بينما يرسم هذا الأخير، الشواطئ المشمسة خاصة. أما النابولي سلفاتور روزا Salvator Rosa فقد أذاع في رومة نموذجا أكثر حركية، برسمه الآفاق الكئيبة، التي تأثر بها Tempesta، فبعد إقامته بـLombardie، أثر هذا الأخير بدوره في فنانين من البندقية ، وقد ساهمت أعماله إلى جانب أعمال آخَريْن في ولادة نسخة خاصة بالبندقية لمشهد عمراني وبحري تحت عنوان La Veduta.

وفي فرنسا، طور جوزيف فرني Vernet تجربة كلود لوران في سلسلة الموانئ الفرنسية، إلا انه رسم أيضا البحر هائجا والأعاصير على الماء. كتب ديدور : "إذا أثار العاصفة، ستسمع صفير الريح وخوار الأساطيل". وفي بريطانيا عرَّف ريشارد ولسون بفن فرني الذي عايشه في رومة، وانتسب إليه - في نفس الوقت - الهولنديان Momper و Van de Velde اللذان استقرا بلندن في 1672، فأثرا تأثيرا حاسما في فنانيها. كتب كونستابل Constable : "بدأت الرسم لما حصلت على لوحة صغيرة لروسدايل لنسخها" وتورنر Turner نفسه، صرح بخصوص محفورة لفان دي فالد : "هذه هي التي جعلت مني رساما".

وفي نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 ساهمت الانطباعية والوحشية في تطور رسم البحر وربما أضيفت لهذا النوع نهضة استثنائية. فقد أعطى بعض الفنانين مثل كلود موني، أعطوا الفن بعدا آخر، لأنهم أرادوا إعادة إنتاج الضوء الطبيعي بأمانة. لقد حاولوا، وللمرة الأولى، تثبيت الطبيعة بواسطة التصوير المحظ، وفق نسق يتَّبع آثار الضوء وحالات التغير في الطبيعة. أما جورج سيرات ومؤيدوه، فقد أنشأوا لها نظاما يتسم بالعلمية. إذ ذاك أخذت آلة التصوير تسعى لاكتساب موقع لها بميدان الرسم، وهذا ما يفسر سعي الرسامين إلى مزيد من استقلالية ميدانهم، وقد تحققت بمرور الزمن. فمن جهة حاول بعض الرسامين إخفاء استعمال آلة التصوير، ومن أخرى، كانوا يبحثون عن إمكانيات أخرى للتعبير، بعيدا عن الرسم الواقعي الكلاسيكي عند غوستاف كوربي.

القسم الثاني
رسم البحر في تونس
(قراءة موجزة في أعمال رسامين تونسيين انشغلا بالبحر).

تقديم
لقد اهتم العرب - كما سبق أن استعرضنا بإيجاز شديد- بالبحر، وحاولوا وضع قواعد علمية للتعامل معه. وبما أن الرسم لم يكن من اهتماماتهم من قبل فإننا لا نجد إسهاما يذكر لهم في هذا الخصوص، حتى نهاية القرن التاسع عشر. أما في القرن العشرين، وبعد أن ركز الاستعمار الغربي مؤسساته، ونشط ثقافيا، أسس المدارس العلمية، تلبية لحاجيات جالياته، فكان أن التحق مبدعون تونسيون بمدرسة الفنون الجميلة، ودرسوا تقنيات الرسم ونماذج منه، إضافة إلى ما يقدمه الصالون إذ ذاك من إبداعات غربية مهدت لتناولات بحرية من طرف عديد الرسامين التونسيين، وهكذا تكونت لدينا نواة في هذا الخصوص تتفاوت إبداعا وتعبيرا وفق التطور الذي يحصل في منابعه بأوروبا. وبرغم أن التناولات كانت في الغالب لموانيء ومشاهد بحرية تونسية، إلا أنها لا تخرج عن المسار الذي تدور فيه الأعمال الغربية. ولكننا مع ذلك، سنحاول القيام بقراءة مختصرة لتجربتين تونسيتين في هذا المجال، للرسامين رؤوف قارة ومحمد البعتي.

رؤوف قارة : سليل البحر وغواصه
انتبه رؤوف قارة، منذ انفتاح عينيه على زرقة البحر وإلى رسوِّ الزوارق وصياح البحارة، انتبه إلى أن ملوحة البحر ومده وجزره ليست كلَّ شيء فيه. حتى الحيتان بكل سلالاتها ليست سوى حالة من حالات الكينونة فيه. وشدته أحشاء البحر وما يستخرج منها من هياكل لبواخر غارقة، وأشلاء طائرات وحيتان ضخمة. وقد اختزن كل ما كان يستحوذ على ذاكرته الغضة، إلى جانب ما كانت تثيره فيه الحوادث والمشاهدات، والتأثر العميق بما يتسبب فيه البحر من مآسٍ. وهكذا ولد هاجس البحث لديه ولكن من خلال الإبداع... ثم ها هو الطفل يكبر ويتدرج في مسالك الدراسة التي طوحت به بعيدا، فأخذته إلى ألمانيا واليابان. وعندما عاد إلى مسقط رأسه كانت نظرته إلى البحر قد اصطبغت بالحنين إلى الوطن، ولكن أيضا بقدرات على التحليل والتأويل والتجسيد، أكسبته إياها الدراسة والأسفار. وما بين العاصمة ومدينة قليبية، شرع هذا الفنان في تنفيذ مشروعه الذي يرتكز أكثر ما يرتكز على الكشف والاستكشاف، كشف ما استعصى على النظر العادي اختراقه في لجة البحر.
وقد سخَّر الفنان حياته كلها لتحقيق هذا المشروع حتى أنه لم يفكر في مزاوجته بغيره من متطلبات الحياة الأخرى. وقد تضمن حتى الآن ثلاث مراحل هامة، الأولى، وهي مرحلة معايشة البحر بكل تقلباته ونزواته. والثانية وهي مرحلة اكتشاف الرموز الحضارية لمجتمعات ضفاف المتوسط. أما المرحلة الثالثة فهي المتعلقة باستنطاق الفسيفساء وحوار الحضارات.

وتعتبر المرحلة الأولى حتى الآن الأطول في تجربة الفنان رؤوف قارة، بل لعلها الأساسية. لقد تمرس بمعالجة حالات البحر في هدوئه وثورته، في ألوانه وأفقه، في مراكبه وبواخره، في شواطئه وورشات صنع المراكب وإصلاحها... عايش مصارعة البحارة لأهواله، فرسم كل ذلك، ونظره لا يتوقف عن استجلاء أعماق البحر. وقد جسد الفنان في هذه المرحلة الأولى حالات من كل ذلك واستطاع عبر الخط واللون رسم مملكته الإبداعية بكل ما تحتويه من نوارس وبواخر وصيادين وزوارق وأشلاء سفن مبعثرة على الشاطئ ... رسم كل ذلك نهارا حينا وليلا حينا آخر. لكنه وهو يجوب أعماق مملكته، كانت تعترضه رموز وعلامات وآثار لافتة.
وقد هيمن الموضوع/البحر في أعمال هذه المرحلة بقوة من خلال إحكام السيطرة أيضا على الجوانب التقنية سواء في ما يتعلق بِمَلْءِ المساحات أو توظيف الألوان.

في المرحلة الثانية بدأ الفنان يتحسس روح حضارة خلدت إلى الراحة بعد أن ملأت الأرض عطاء : ألا وهي حضارة قرطاج. لكن الفنان رؤوف قارة ، وهو يلامس عناصر تميز هذه الحضارة، وحالات تدفقها الإبداعي المؤسس، كان يدرك أنه يعيد الحياة إلى بعض أرجاء الذات، فينقذ أجزاءها من التشتت والتبعثر، ليُكَوِّن من خلال لوحاته منظومة تعبيرية تحاول أن تدل الرائي على حضارة تقع على مرمى البصر، تشده إليها شرايين تمتد في الاتجاهين منه إليها. وقد تميزت أعمال رؤوف قارة خلال هذه المرحلة ببعدين رئيسيين : الأول تشكيلي، والثاني تعبيري. وبتداخل البعدين تتحقق هرمنة المشهد فتتم المزاوجة بين الفكرة والحالة والبعد التاريخي والخطوط والألوان، فينشأ لدى المتلقي إحساس بتوزع جذوره في أزمان متعددة.
أما المرحلة الثالثة، فقد تميزت باكتشاف الرموز الحضارية للفينيقيين والرومان والبربر، أي الذين التقوا على أرض تونس أو مروا بها، وصولا إلى بقاياها الجاثمة في قاع البحر، والمتمثلة في مواد مختلفة، منها الأوعية الطينية المهشمة. فمنذ عشرين عاما تقريبا، وهو يجمع تلك المهملات ويقارن بينها شكلا ولونا، خاصة تلك العلامات الرامزة، المثبتة عليها، يتأملها ويستنطقها... إنها حضارات المتوسط تتحاور وتتجاور عبر تلك المخلفات.
وقد برزت فكرة الألواح كأفضل إطار لهذا الحوار، فكانت امتدادا للمشروع الفني الأساس : إبداع حالات البحر واكتشاف مكنوناته وأسراره.

محمد البعتي : مرحلة البحث في خصوصيات العمل الفني
يستلهم الفنان محمد البعتي من عناصر عالمه الإبداعي لحظات تعبيرية تصل حد السريالية أحيانا. وهو يعتمد أسلوب الطبقات المتراكبة صلب الألوان وبتقنيات التشافّ أو الشفافية، حيث يمكن للرائي رصد أكثر من عنصر أو جزء من خلال أجزاء أو عناصر أخرى يفضي بعضها إلى بعض، ليتشكل منها وعبرها وفيها عالمه الفني. وهذه التقنية تنأى عن السهولة وتتوسل بالمجهول بحثا عن حالات إبداعية مختلفة. والفنان محمد البعتي اختار الطريق الأصعب لإنجاز أسلوبه وانتقاء مجالات أبحاثه. ولئن كان أهم مجال تتشكل فيه حالاته المبدَعة هو البحر، إلاّ أنه يتخذه منطلقا وموضوعا، ليؤسس من خلال خصوصياته الضوئية والانعكاسية وتحولاته اللونية، أسلوبه الإبداعي، الذي يتراوح بين اتجاهات عدة منها التشخيصية والتعبيرية والسريالية والتجريدية، في تداخل وتمازج يجعل من خصائص كل منها رافدا لتجربته، بهدف تكوين سياق إبداعي تعبيري بالأساس، يحوصل مرحليا أهم ملامح تلك التجربة، في تعدد مراحلها وتنوع مجالاتها وإضافاتها.

يبدو البعتي وكأنه يبحث عن حالة بعينها يريد اصطيادها، من بين تفاعلات الوهم والتخيل والحلم. تطوح به اللاءلاء فلا يمسكها، وتمضي به أسراب السراب فيقتطع منها ما أمكنه. وإذا الناتج تلك الوحدات اللونية المؤكدة صراخ الوعي ووتشنجات الأحاسيس. وإذا الصمت يتغلغل في الأشياء ضجيجا حيا وإيقاعات لا تُسمع إلا والعيون مغمضة.
فعبر الشفافية نكتشف الأبعاد العميقة للبحر، في حين يتشكل الأفق من تنويعات لونية لا تستقر الحالة فيها حتى تنطلق أو تداهمها حالات أخرى. من ذلك اختلاط الأسماك بحامول البحر، بالغثاء، بالزبد، بالزرقة في تركيبة سحرية المنظر، وذات أنساق جمالية، برغم افتقارها لأية وظيفة نفعية واضحة. و أيضا تلك الوجوه التي تنافح من أجل أن تظهر من خلف الشفافية، فيتداول عليها الإظهار والإخفاء، كأنما أصحابها في حالة غرق يسعون إلى النجاة والخلاص.

إن السفر داخل أعمال البعتي متعب حد الاستفزاز. فلطالما تمنيت أن أعثر على حالة ما تقول لي كل ما لديها، لكن ذلك لم يحدث. فكل لوحة، أو حالة، أو شكل، تتبرأُ مما أحاول نسبته إليها. وتمضي سابحة في ضجيج الوهم الذي أوقع الكثيرين في أحضانه. إن أعمال هذا الفنان مثل كُوًى يُومض من خلالها البرق فيسقط الضوء المفاجئ على الأشياء. ولا يستطيع المشاهد أن يدعي انه رأى شيئا محددا. كل الذي يخرج به من مشاهدة أعماله، انه عاش لحظات لذة وحيرة، واستفهامات لا يستطيع تحديد موضوعها، وانه في خاتمة الأمر، التقى بكائنات/أشكال لم يسبق له أن رآها حتى في الأحلام.

تتشكل الحالات والأحداث في أعمال الرسام محمد البعتي من تمريرات الفرشاة، حتى لكأنه يترك لها مهمة تكوين الحدث أو إنشاء الحالة. وإذا الأشكال توشك أن تنكشف، ولكنها تستعجل التخفي. ويبقى ماثلا في تحولات البصر ما يدل عليها دون ان يستحضر هويتها بالوضوح المطلوب. هو يؤكد على مجموعة العناصر التعبيرية التي تنهض داخل الفضاء الضوئي لتحدث في الوعي لقطات يستحيل على البصر التركيز عليها أو تحديد دلالاتها.
هذه التكوينات التي تنتشر في اغلب أعماله توازي الكائنات ولا تحل مكانها. يخال البصر من خلال المسحة الشفافة أنها كائنات، ولكنها في تأويل آخر، قد تكون تصدعات في الفضاء، وانكسارات في الرؤية تجاه سطح البحر، وحتى اختلالات في التوازن التعادلي لمنطق انتشار الضوء فيه. وتوزيع الألوان هو أداة التكوين، ومنها نستشف روح التصدع، ودواعي الانكسارات، والامتدادت المتوغلة في تلافيف الفضاء. وتداخل الأبعاد هو مما يؤكد تغلغل المرئي في البصر، عسى أن يحجب منافذ تفضح اللامرئي من جديد.

ما الذي يريد البعتي أن يبلغنا من خلال هذه الوحدات والتشكلات والكائنات ؟ ربما تقول اللطخات أكثر مما يقوله هو، لان تمريرة الفرشاة لا تحد بوهم محدد، إنها أبعد من المنظور الحسِّي. لذلك فالبعتي أرسل خطابه وبالتالي قد قال ما يريد. وقد ينقلب السؤال : ماذا أدركنا نحن من هذه الأعمال ؟ في لوحاته الكبيرة نسبيا تعمد الألوان إلى إيهامنا بان انفعالات الفنان تتمرد عليه، ولكنها تعجز عن الفرار من سيطرته، فهو اقدر على إلجامها ؛ وإن لم يدرك ذلك بعد. أما في لوحاته الصغيرة نسبيا والمتوسطة الحجم، فان انفعالاته لا تحصر، والحالات تتجه إلى درامية حد الغرابة.